الموصلات الفائقة للكهرباء تقود ثورة صناعية جديدة وتوفِّر الطاقة
أحدثَ اكتشاف العالِم البريطاني مايكل فاراداي، للمبادئ الأساسية لتوليد الكهرباء في عام 1831م، ما عُرف لاحقاً بالثورة الصناعية الثانية، بعد أن كان المحرّك البخاري عماد الثورة الصناعية الأولى. واليوم،
أحدثَ اكتشاف العالِم البريطاني مايكل فاراداي، للمبادئ الأساسية لتوليد الكهرباء في عام 1831م، ما عُرف لاحقاً بالثورة الصناعية الثانية، بعد أن كان المحرّك البخاري عماد الثورة الصناعية الأولى. واليوم، يبدو أن بعض التطوُّرات في تكنولوجيا الموصلات الفائقة للكهرباء والتي تُوِّجت حديثاً باختراق مهم، نُشرت تفاصيله في مجلة “نيتشر" بتاريخ 14 أكتوبر 2020م، ستحقِّق إذا ما تم حل بعض المشكلات المتبقية، حلم العلماء القديم، وتوفِّر كميات هائلة من الطاقة، وتحدث ثورة في معظم نواحي حياتنا العصرية.
إن معظم المواد التي يستخدمها الناس في المنتجات الكهربائية هي إما عوازل، مثل البلاستيك، أو مُوصلات مثل النحاس أو الألمنيوم. فالعوازل تُظهر مقاومة عالية جداً للكهرباء، أما الموصلات فتُظهر بعض المقاومة. وثَمَّة فئة أخرى من المواد لا تظهر أي مقاومة على الإطلاق عند تبريدها إلى درجات حرارة منخفضة جداً، تسمى الموصلات الفائقة (Superconductors) وتحتاج إلى كميات ضخمة من الهليوم السائل الثمين لتبريدها إلى قرب الصفر المطلق، أو ناقص 273.15 درجة مئوية. ولذا، رغم أننا نستطيع صناعة حقول مغناطيسية ضخمة بواسطة مواد فائقة التوصيل بغمسها في الهليوم السائل، فإن التكلفة غالباً ما تحول دون استخدامها تجارياً. يمكن للمغناطيسات ذات القدرة الفائقة على التوصيل، أن تولد حقولاً مغناطيسية ضخمة بطاقة قليلة. ولها تطبيقات واسعة ومذهلة في مجال التشخيص الطبي، والقطارات المغناطيسية السابحة (Maglev)، والاتصالات واسعة النطاق، والحوسبة الكمومية والشبكات الكهربائية.
ويعود أحد أسباب عدم شيوع المغناطيسات الضخمة إلى أن الأجهزة الكهربائية المستخدمة تطلق حرارة. والموصلات الجيدة للكهرباء، مثل الفضة أو النحاس، تمتلك مقادير ضئيلة من المقاومة للتيارات الكهربائية مما يؤدي إلى هدر في الطاقة أيضاً. وتقدَّر خسارة شبكة الطاقة الأمريكية المكوّنة من كابلات معدنية بحوالي 20 مليار دولار سنوياً نتيجة الطاقة المهدورة.
ولطالما كان حلم العلماء والمهندسين الصناعيين إيجاد موصل فائق عند درجة الحرارة العادية والضغط المحيط، ولا يحتاج إلى أي تبريد على الإطلاق. وإذا أمكن اكتشاف مثل هذا الموصل الفائق، فإنه سوف يغير الصناعة الحديثة على نحو يفوق التصور.
مراحل تطوُّر الموصلات الفائقة
لوحظت خاصية التوصيل الفائق لأول مرَّة عام 1911م، عندما اكتشف الفيزيائي الهولندي هايك كاميرلنج أونيس في لايدن، أن الزئبق يفقد كل المقاومة الكهربائية عندما يُبرّد حتى حوالي 4.2 درجة فوق الصفر المطلق، وحصل على جائزة نوبل بسبب هذا الاكتشاف الأساسي. وفي عام 1957م، وضع جون باردين وليون كوبر وروبرت شريفر تفسيراً للجيل الأول من الموصلات الفائقة، عُرف باسمهم أو اختصاراً (بنظرية BCS)، مما أدّى إلى فوزهم بجائزة نوبل أيضاً. وتعتمد نظريتهم على حقيقة أن الإلكترونات التي تتحرك ضمن شبكة، يمكنها أن تخلق اضطرابات صغيرة وتجعدات، ويمكن لإلكترون ثانٍ، إذا ما حُصر ضمن هذا التجعد، أن يشكِّل زوجاً إلكترونياً مع الأول، يدعى زوج كوبر، يتغلب على التنافر الطبيعي للإلكترونات. وبحسب نظرية الكم، يمكن لأزواج كوبر هذه -بعد ذلك- أن تتحرّك من دون مقاومة خلال الشبكة.
بعد ذلك، توّقع العالم نيل أشكروفت من جامعة كورنيل في عام 1968م، أن الهيدروجين المعدني -الذي يتم الوصول إليه تحت ضغط عالٍ جداً- سيكون العنصر الرئيس لاكتشاف الموصلية في درجة حرارة الغرفة أو أعلى منها.
يئس الفيزيائيون لعقود من العثور على الموصل الفائق الأسطوري. وقد شُبه البحث، في مراحل معيَّنة، عن موصلات فائقة عند درجة الحرارة العادية بالبحث العقيم من قبل الخيميائيين القدامى عن "حجر الفلاسفة"، الذي يحوِّل الرصاص إلى ذهب. ولكن تقدماً غير متوقع حصل في أواخر عام 1986م وأوائل عام 1987م، عندما أعلن ك. ألكسندر مولر، وج. جورج بيدنورز من مختبر أبحاث "آي. بي. أم" في زورخ أنهما صنعا موصلاً فائقاً من السيراميك عند درجة حرارة قياسية، تقدَّر بـ 35 درجة فوق الصفر المطلق. أدهش هذا الإعلان علماء الفيزياء، إذ كان أول اكتشاف رئيس في هذا الحقل منذ 70 عاماً، وأدّى إلى إحراز العالِمين لجائزة نوبل. ولم يشك أحد في أن السيراميك المصنوع من سيراميك اللانثانوم باريوم وأكسيد النحاس، اللذين يعدان مادتين عازلتين، يمكن أن يصبح من الموصلات الفائقة. بعد ذلك بفترة وجيزة بيّن ماو كوين وباول تشو أن الإيتريوم- باريوم أكسيد النحاس (YBCO)، يمكن أن يصبح موصلاً فائقاً عند درجة الحرارة 93 فوق الصفر المطلق أو تقريباً (-180 درجة مئوية). وأدّى هذا إلى تحوّل في دراسة الموصلية الفائقة وتطبيقاتها. فمن الممكن تبريد هذه المواد السيراميكية النحاسية بواسطة النتروجين السائل، الذي يكلف 10 سنتات لكل ربع لتر، بينما يجب تبريد الموصلات الفائقة بالهليوم السائل، الذي يكلف بحدود 4 دولارات لربع اللتر. وباكتشاف المركّبات التي تفوق حرارتها 77 درجة كلفن، بدأ عصر جديد من الموصلات. وهو ما اصطلح على تسميته بـ "المُوصلات فائقة التوصيل عالية الحرارة". في حين حملت الفئات السابقة لذلك التاريخ اسم الموصلات فائقة التوصيل التقليدية أو منخفضة درجة الحرارة.
عوائق خفَّفت الحماس لبعض الوقت
خفت الحماس الذي أثير حول الموصلات الفائقة في أواخر الثمانينيات، وساد محله اعتقاد بأن الموصلات الفائقة عند درجة الحرارة العادية بعيدة المنال. ويعود سبب هذا الفتور إلى عدّة مشكلات يجب حلها قبل أن تصبح الموصلات الفائقة المفيدة تجارياً متاحة. ومن أبرز هذه المشكلات:
فقدان القدرة على كسر حاجز درجة الحرارة الحرجة ورفعها إلى درجة حرارة الغرفة والتخلص من التبريد المكلف.
هشاشة المواد السيراميكية وصعوبة تشكيل هذه المواد لتصبح على شكل أسلاك رفيعة؛ فهي على النقيض من المعادن التي تكون قوية ومرنة ويمكن ثنيها وطيها في أي شكل مطلوب. والأكاسيد النحاسية هشة مثل الطباشير، وتتألف من حبيبات صغيرة جداً غير منتظمة، مما يعيق تدفق الكهرباء.
فقدان هذه الموصلات قدرتها على التوصيل الفائق حينما تتعرَّض لمجالات مغناطيسية قوية بسبب تولد دوامات مغناطيسية ضمنها، مما يعيق أيضاً من تدفق الكهرباء.
غير أن إضافة مركبات جديدة لم يتحقق إلا بعد عدة سنوات. ففي عام 1994م، ظهرت وصفات سيراميكية تحتوي على أكسيد النحاس والزئبق تتحوَّل إلى موصلات فائقة عند درجة حرارة 160 كلفن، بيد أن ذلك يحدث حينما تُسلط عليها ضغوط عالية جداً. وفي عام 2004م، اقترح أشكروفت أن ربط الهيدروجين بعنصر آخر قد يضيف نوعاً من "الضغط الكيميائي المتقدِّم" الذي يمكن أن يجعل الموصلية الفائقة بدرجة حرارة أعلى ممكنة في ضغوط أقل.
الاختراق التكنولوجي الجديد
قبل أشهر قليلة، حقَّق فيزيائيون من جامعة "نيفادا لاس فيغاس" وجامعة "روتشستر" اختراقاً علمياً في البحث الذي طال انتظاره عن موصل فائق في درجة حرارة الغرفة. إذ توصلوا إلى موصل فائق مكوّن من ثلاثة عناصر الهيدروجين والكربون والكبريت كانت مقاييسه بين 25 و35 ميكرون. وعملياً، قام هؤلاء بحشو خلية سندان ماسية بجزيئات صلبة صغيرة من الكربون والكبريت مطحونة معاً، ثم نُقلت عبر أنابيب في ثلاثة غازات: الهيدروجين وكبريتيد الهيدروجين والميثان. وبعد ذلك سلطوا الليزر الأخضر عبر الماس ما أثار تفاعلاً كيميائياً حوّل الخليط إلى بلورات شفافة. ثم وضعوا البلورات تحت ضغط بلغ 148 جيجا باسكال وفحصوا موصلية العينة عبر الأسلاك الكهربائية، ووجدوا أن البلورات أصبحت فائقة التوصيل عند 147 كلفن. وبرفع الضغط مرة أخرى إلى 267 جيجا باسكال، وهذا الضغط يعادل نسبة %75 من الضغط في نواة الأرض، البالغ حوالي 360 جيجا باسكال- وصل الفريق إلى درجة حرارة تبلغ 287 كلفن (13.85 درجة مئوية) أي درجة حرارة الغرفة. كما وجد الباحثون بعض الأدلة على أن البلورة طردت مجالها المغناطيسي عند درجة حرارة التحوُّل، وهو اختبار حاسم للموصلية الفائقة. نشروا نتائج اكتشافهم كما أسلفنا في مجلة "نيتشر" في أكتوبر 2020م. ولا مندوحة عن توفر معيارين أساسيين للحصول على موصل فائق بدرجة حرارة عالية وهما روابط قوية بين ذرات الجزيء وعناصر خفيفة. والهيدروجين هو أخف المواد ورابطته هي واحدة من أقوى الروابط.
والجديد في هذا المُوصل هو إضافة عنصر الكربون لأنه يكوّن روابط قوية مع الذرات المجاورة ويحافظ على تماسك بنية المادة ويمنعها من التداعي عند الضغوط المنخفضة. وهكذا وجد الباحثون أن إضافة الكربون والكبريت إلى الهيدروجين يجعله يتصرّف كما لو كان تحت ضغط أعلى مما هو عليه بالفعل. ولتوضيح ذلك لنفترض أنك في غرفة لها أربعة جدران، إحدى الطرق التي يمكنك من خلالها الضغط على نفسك هي تقريب الجدران أكثر فأكثر. ولكن يمكنك أيضاً الاحتفاظ بحجم الغرفة نفسه وإضافة 10 أشخاص إلى الغرفة وسوف تشعر بالضغط عليك. وفي هذه التجربة، فإن إضافة الكربون والكبريت إلى الهيدروجين يشبه إضافة مزيد من الأشخاص إلى الغرفة فهما يعملان على الضغط الكيميائي المسبق للهيدروجين.
مشكلة الضغط.. في طريقها إلى الحل؟
على الرغم من هذا التقدُّم الكبير، لا يزال المُوصل الفائق الجديد غير عمليٍ للتطبيقات، حيث يُنتج بكميات قليلة فقط وتحت ضغوط هائلة لتفادي انهيار وتفكك المُوصل عند تحرير الضغط.
ويقول الباحثون إن حقيقة احتواء هذا المركّب على ثلاثة عناصر مختلفة - في حين أن الموصلات الفائقة الأخرى تتكوَّن من عنصر أو اثنين فقط - يجعله متكيفاً وقابلاً للتعديل، وسيساعد في محاولة جعله يعمل عند ضغوط أقل. فعلى سبيل المثال، يعمل العلماء على إنتاج مواد تحت ضغوط أقل كما في الماس فهو شكل عالي الضغط من الكربون. ولكن في الوقت الحاضر، يمكن تنميته وإنتاجه في المختبر باستخدام تقنيات الترسيب الكيميائي. وقد نتمكن من القيام بشيء مماثل مع الموصلات الفائقة. وهكذا، ستكون الخطوة التالية في البحث محاولة تقليل الضغط العالي المطلوب من خلال ضبط التركيب الكيميائي للعيّنة. وإذا تمكن العلماء من الحصول على المزيج الصحيح يعتقد الباحثون أن الموصل الفائق في درجة حرارة الغرفة والضغط المحيط سيكون أخيراً في متناول أيدينا.
المقاومة العقيمة (الصفرية) والمأمول منها في قطاع الكهرباء
إن الطرق التي تولِّد وتنقل وتوزّع بها الكهرباء سوف تتغير جذرياً بواسطة موصلات فائقة رخيصة وفعَّالة في درجة حرارة الغرفة. فحوالي %5 من الكهرباء المولدة في الولايات المتحدة تُفقد في النقل والتوزيع، وفقاً لإدارة معلومات الطاقة. وتلافي هذه الخسارة سيوفِّر مليارات الدولارات وسيكون له تأثير كبير على المناخ.
وستتيح الموصلات الفائقة في درجة حرارة الغرفة نظاماً جديداً بالكامل لشبكة الطاقة. إذ يمكن جعل المحولات، التي تُعدُّ ضرورية للشبكة الكهربائية، أصغر حجماً وأرخص وأكفأ؛ وكذلك الحال بالنسبة للمحركات والمولدات الكهربائية. وحالياً، تستخدم وحدات تخزين الطاقة المغناطيسية فائقة التوصيل لتخفيف التقلبات القصيرة الأجل في الشبكة الكهربائية، ولكنها تظل ملائمة نسبياً لأنها تتطلب كثيراً من الطاقة للحفاظ على برودة الموصلات الفائقة.
إن الموصلات الفائقة التي تعمل في درجة حرارة الغرفة، خاصة إذا كان من الممكن هندستها لتقاوم الحقول المغناطيسية القوية، قد تخدم كوسيلة بالغة الكفاءة لتخزين كميات أكبر من الطاقة لفترات أطول. الأمر الذي يجعل الطاقة المتجدِّدة، والمتقطعة التشغيل، مثل توريبنات الرياح أو الخلايا الشمسية، أكثر فعالية.
ونظراً، لأن الكهرباء المتدفقة توّلد مجالات مغناطيسية، يمكن أيضاً استخدام الموصلات الفائقة لخلق مغناطيس قوي لتطبيقات متنوِّعة مثل آلات التصوير بالرنين المغناطيسي وقطارات التحليق والسيارات الحوامة الرخيصة. وتتمتع الموصلات الفائقة بأهمية كبيرة محتملة في مجال الحوسبة الكمومية الناشئ. وتُعدُّ البتات الكمومية (Qubits) فائقة التوصيل أساساً لبعض أقوى أجهزة الكمبيوتر الكمومية في العالم. إن القدرة على صنع مثل هذه الكيوبتات من دون الحاجة إلى تبريدها لن تجعل أجهزة الكمبيوتر الكمومية أبسط وأصغر وأرخص ثمناً فحسب، بل قد تؤدي إلى تقدُّم أسرع في إنشاء أنظمة عديد الكيوبتات اعتماداً على الخصائص الدقيقة للموصلات الفائقة التي أُنتجت. كما يمكن لهذه الاختراقات التكنولوجية أن تشكِّل دافعاً قوياً لتسريع الثورة الصناعية الرابعة التي هي قيد الانطلاق حالياً.