طوفان الأقصى... الحقيقة المجردة

هذا الطوفان لم يعد غزاوياً كما بدأ، ومعادلاته لم تعد محلية ولا إقليمية، بل تقاطعت فيه خطوط السياسة والتجارة العالمية، فإلى أين تسير الأمور؟

طوفان الأقصى... الحقيقة المجردة

لم يكن الطوفان متوقعاً لكنه بدأ على حين غفلة جارفاً في طريقه الكثير من أساطير الحرب والسياسية ومشعلاً لفتيل يمتد نحو برميل من البارود... وثمة جهود قوية لإطفاء الفتيل تجنباً لحرب شاملة لن تتوقف إلا بعشرات الملايين من الضحايا من مختلف الأطراف.

وما زال من المبكر إطلاق تقييمات نهائية للأحداث الجارية بسبب الغموض الذي يكتنف بعض جوانبها وشح المعلومات حولها، ولكن ثمة خطوط عريضة تبدو واضحة للعيان.

ثمة من يراها حرباً عادية سوف تمر كسابقاتها، وثمة من يراها متدحرجة متنامية بلا حدود، وثمة من يراها بين الأمرين مرهونة بتسويات عالمية واقليمية متوقعة. والمؤكد الذي لا جدال فيه أن اطفال غزة الشهداء لن يعودوا إلى الحياة على الأرض ولا نسائها المغدورات في بيوتهن ناهيك عن أبطال مقاومتها الذين نالوا شرف شهادة سوف يشهدون بها ذات يوم على فجور الأمم في القرن الواحد والعشرين.

هي حرب لم نعلم أهدافها، فكما بطنت ساعة صفرها وخطة هجومها بطنت أهدافها أيضاً، ومن ثم تكاثرت الأهداف ولم تعد مقتصرة على أهداف المقاومة الفلسطينية ومحورها، وإنما بات للعدو أهدافه وبات للحلفاء القريبين والبعيدين لكلا الطرفين أهدافهم أيضاً. وبذلك تأخد الحرب أبعاداً ربما لم تكن محسوبة حين بدءها.

ولفهم ما يحدث لا بد ان ننظر من بعيد إلى استراتيجيات عالمية وإقليمية ومحلية، فالصراع في الشرق الأوسط غارق في القدم، منذ بابل وآشور ومصر القديمة مروراً بفرس ويونان وروم ثم حروب صليبية لم تنته فصولها بعد. صراع فيه الكثير من التفاصيل يعجز العقل عن الإحاطة بها، ومع ذلك فإن فصولها متشابه تعيد نفسها مرة بعد مرة وكأنها عجلة تدور على محورها بلا توقف. هي لعنة الشرق الأوسط الذي لا ذنب له إلا أنه كان في وسط العالم.

هذا الوسط الذي لا مفر من المرور عبره ذهاباً وإياباً بين القارات، هو ملتقى الحضارات وملهمها، ومركزها وشعاع نورها... وتلك هي الثروة الهائلة التي تأتيه من خدمات يقدمها للجميع، خدمات روحية وتجارية وعلمية حضارية... تلك هي اللعنة التي جعلت منه محطاً لأنظار كل طامع وطامح.

وإسرائيل ليست دولة، بل هي كيان يتقمص صفة الدولة، ليس له إلا صفة واحدة هي صفة قاطع الطريق بين آسيا وإفريقيا، وكل الصفات الأخرى مصطنعة مزيفة، هو ليس وطناً قومياً ليهود، وليس دولة قوية الجيش أو الإقتصاد، والأهم هو ليس دولة سلام. وكل من يدعم هذا الكيان بالسياسة أو المال أو السلاح هو على شاكلته قاطع للطريق مع الفرق بين الأجير والمستأجر...

والولايات المتحدة هي شركة انكلوساكسونية كبرى تحت إدارتها شركات فرعية مهمتها التحكم بمفاصل العالم، لا تخضع لقانون أو دين، مجردة من الأخلاق... والكيان الإسرائيلي هو فرع من فروعها، وعلى شاكلتها...

وغزة الفلسطينية كانت وما زالت بوابة مصر وشمال إفريقية، ومن شرقها تنفتح بوابة الحجاز واليمن، تلك هي لعنتها القديمة التي قد اضيفت إليها لعنة جديدة بسبب جوارها لقناة السويس، وجوارها لحيفا الفلسطينية المحتلة التي من المزمع أن يمر من خلالها خط تجارة عالمي أعلن عنه رئيس الولايات المتحدة منذ حين قريب، يبدأ من الهند بحراً مروراً بالشرق الأوسط براً نحو أوروبا بحراً.

الغريب في هذا الخط أن تكلفة العبور من خلاله ستكون أعلى من تكلفة العبور من خلال قناة السويس وبالتالي فليس من المتوقع أن يشهد ازدهاراً إلا في حال تعطيل قناة السويس، وهنا بيت القصيد.

لقد فقد الغرب الأنكلوساكسوني سيطرته على قناة السويس بعد تأميمها من قبل الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر عام ١٩٥٦، حينها تعرضت مصر إلى عدوان ثلاثي من قبل الكيان الإسرائيلي وبريطانيا وفرنسا وفقدت فيه السيطرة على سيناء وقناة السويس... إنتهى العدوان بتهديد الإتحاد السوفيتي بسحق العدوان على مصر، ومنذ ذلك الحين بسطت مصر سيادتها على القناة وسيناء لتعود إسرائيل إلى احتلالها مرة أخرى عام ١٩٦٧ وحتى إبرام اتفاقية كامب ديفيد وعودة السيطرة إلى مصر.

مازال الغرب مصراً على إيجاد بديل عن قناة السويس ليكون هو المتحكم بممرات التجارة العالمية والمستفيد من إيراداتها المالية، في نفس الوقت فإن الصين مع روسيا والهند لم تبد إكتراثها بالمشروع الأمريكي الجديد ربما بسبب إدراكهم لإنعدام جدواه التجارية ما دام الأمر يتم وفقاً للأعراف والقوانين الدولية. ولكن، ماذا لو تم تخطي ذلك بخلق واقع جديد في المنطقة بدأت فصوله تتضح بعد معركة طوفان الأقصى من خلال حشد عسكري أمريكي غير مسبوق، حشد لا يمكن أن يكون الهدف منه مواجهة حركة حماس في غزة لأن قوة كيان إسرائيل العسكرية تتفوق بكثير على قوة حماس العسكرية، مما يدل على وجود أهداف مضمرة لدى الإدارة الأمريكية.

المسألة الثانية التي برزت بعد الطوفان هي محاولة تهجير سكان غزة نحو سيناء، أي بإتجاه قناة السويس وبالتالي نقل المقاومة إلى جوار القناة وتهديد أمنها من خلال سلسلة من الحروب التي لا تنتهي فصولها، مما يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري وتعطيل القناة وهذا ما يؤدي إلى إنعاش ممر بايدن التجاري الجديد عبر دول الخليج ونحو ميناء حيفا. وأيضاً، هذا السيناريو يشكل تهديداً للقوى الإقتصادية الصاعدة في الصين والهند وحرية تجارتها عبر القارات، ويندرج ذلك أيضاً على المصالح التجارية للإتحاد الروسي....

إن مصطلح السلام المستخدم اليوم على نطاق واسع لا يحمل في طياته اي معنى للسلام، بل هو تسمية جميلة لعملية قطع الطريق والقرصنة، وإن الاعتراف بإسرائيل كدولة والعيش معها "بسلام" هو بالتالي إعتراف بحق الأنكلوساكسون باستثمار المنطقة وجني خيراتها. وكل حديث بعيداً عن هذا الفهم هو حديث بعيد عن المنطق.

وإن قدوم بايدن على وجه السرعة لزيارة "إسرائيل" ما هو إلا لحماية الهيمنة الأنكلوساكسونية على خطوط التجارة عبر المنطقة. ومصطلح "حماية إسرائيل" لا يعني إلا حماية الهيمنة الأنكلوساكسونية.

والسلام الحقيقي لا يكون إلا بتفكيك هذا الكيان، وعودة السيادة إلى شعوب المنطقة، وإقامة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الجميع بشكل عادل.

وإن كسر هيمنة الإعلام الأنكلوساكسوني والتكلم عن الأشياء بمسمياتها الحقيقية وكما هي هو نصف المعركة، وكل زيادة على هذا النصف صغيرة كانت أم كبيرة هي ترجيح لكفة النصر على قوى الاستعمار مهما بلغت قواها العسكرية. وإن الإعتماد على هذا النصف الذي لا يحتاج إلا لعقول نيرة من شأنه أن يقلل احتمالات الحرب العسكرية وخسائرها.

هذا الطوفان لم يعد غزاوياً كما بدأ، ومعادلاته لم تعد محلية ولا إقليمية، بل تقاطعت فيه خطوط السياسة والتجارة العالمية، فإلى أين تسير الأمور؟

هذه حرب سقفها الأعلى مواجهة عالمية لا تبقي ولا تذر، إذا بدأت يكون العالم المتحضر قد انتهى. وتحت هذا السقف مواجهة إقليمية غير نووية لن تنتهي إلا بملايين الضحايا ورحيل قوى الاستعمار عن الشرق الأوسط. وأرضيتها تسويات عالمية وإقليمية لن يخسر فيها إلا شعب فلسطين. وبين المستويات الثلاث خيارات كثيرة تحددها إرادات الشعوب وقوة سلاحها.

وفي الترجمات لما سبق فإن ولي العهد السعودي كان صريحاً، فإن المصالح الأمريكية والممر التجاري لا يمكن تحقيقها بتطبيع شكلي مع الكيان الصهيوني ومن غير أن يكون حل نهائي للقضية الفلسطينية، أو بكلام آخر، لا يمكن تحقيقها مع وجود مقاومة فلسطينية ومحورها الذي لن يسمح بتشغيل خط تجاري أمريكي مع وجود الإحتلال واستمرار الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني.

يبدو أن الهيمنة الغربية على الشرق الأوسط باتت تواجه وضعاً مستحيلاً مع توسع تناقضاتها في المنطقة، فها هي تركيا حليفتهم والعضو في حلفهم العسكري تعبر عن استياءها من مشروع الخط التجاري الذي لا يمر عبر أراضيها، وها هي ساحات المقاومة تتوحد من العراق وسوريا وحتى اليمن، وها هو التضامن العربي ينمو يوماً بعد يوم بالإضافة إلى ساحات دولية رسمية وشعبية كثيرة.

مهما اختلفت سيناريوهات الحرب المقبلة فسيخرج منها الحلف الغربي خاسراً، واختلاف التقديرات هو إختلاف في تقدير حجم تلك الخسارة الذي يتراوح بين خروج كامل من الشرق الأوسط أو القبول بتسويات تحفظ لهم مقداراً محدوداً من المصالح. وإن أكثر ما يهدد الغرب في ساحاته الداخلية هو المقارنة بين فلسطين واوكرانيا وتناقض المواقف في الحالتين.

لقد بات على رئيس الولايات المتحدة أن يقنع الكونغرس بتقديم الدعم غير المحدود لكيان إسرائيل بعد فشله في إقرار دعم مماثل لاوكرانيا، وهذا سيرفع مستوى الضغط على ميزانيات دول التحالف الغربي وبالتالي على المزاج الشعبي لدافعي الضرائب، إنها حرب استنزاف لا يبدو أن الغرب مستعد لها. وهذا يبدو واضحاً لمن راقب إنهزام الإستعمار الفرنسي من أربعة دول افريقية دون أن يجرؤ مع تحالفه الغربي على فتح مواجهة عسكرية مع تلك الدول، والسبب في ذلك هو استنزاف طاقة الغرب في العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا. وربما كان هدف الغرب من التسليم بالهزيمة في افريقيا هو توفير بعض الطاقة لمواجهة أخرى متوقعة في الشرق الأوسط نظراً للأهمية الاستراتيجية لهذه الجبهة، لأن جلاء الغرب عن الشرق الأوسط لا يعني إلا نهاية هيمنته ونفوذه في العالم.

إن طوفان الأقصى هو بحق طوفان عالمي إستجر أقوى القطع البحرية الأمريكية والبريطانية إلى شرق المتوسط تحضيراً لحملة صليبية جديدة، وثمة أنباء عن قدوم قطع بحرية فرنسية أيضاً... نعم هو إعادة لتواريخ كثيرة، وجيوش صلاح الدين والمماليك مع أهل الشام بالمرصاد....

بعد حروب صليبية دامت عدة قرون تعلم الغرب دروس الهزيمة العسكرية ولكنه لم يشعر حينها باليأس بل إنتقل إلى سياسة الدهاء والخديعة ونجح في ذلك إلى حين، وبعد مرور قرون أخرى تعلم أيضاً دروس الهزيمة في جبهات الدهاء... ولم يبق عليه اليوم إلا تعلم دروس الحق والعدالة والأخلاق... وإلا...