الواقع والمتخيّل والتجربة الاعتقالية في نصوص "دمعة وودة على خدّ رام الله" لحسن عبد الله

مرّة أخرى، ومن واقع الحجر القسري الذي فُرض كوسيلة لمقاومة جائحة الكورونا، التي فرضت قوانين جديدة في حياتنا، حجر جديد، بين الاختياري والإلزامي، يوّلد حالات من الإمعان في واقع عشناه بأريحية

الواقع والمتخيّل والتجربة الاعتقالية في نصوص "دمعة وودة على خدّ رام الله" لحسن عبد الله
الواقع والمتخيّل والتجربة الاعتقالية في نصوص "دمعة وودة على خدّ رام الله" لحسن عبد الله

مرّة أخرى، ومن واقع الحجر القسري الذي فُرض كوسيلة لمقاومة جائحة الكورونا، التي فرضت قوانين جديدة في حياتنا، حجر جديد، بين الاختياري والإلزامي، يوّلد حالات من الإمعان في واقع عشناه بأريحية تفاصيله، وواقع نتمناه، يفتح نوافذ الرغبة والأمل، برومانسية خيالات تدهمنا، بحنان وقسوة، وموجات من التداعيات والمقاربات، الذات مع العام، والواقع المعاش مع شموس الحرية في خيارات حياتنا، ولأن الحاضر محجور عليه بفعل الجائحة، فالماضي يعود إليه، والمستقبل منطلقاً منه، هكذا يطلّ علينا الكاتب حسن عبد الله عبر نصوصه في مؤلفه "دمعة ووردة على خدّ رام الله"، نتناول فيها، تجربته في زمن الاعتقال، التي ما انفكت تلاحقه، فيركن إليها بهدوء كتجربة نضالية ما زال شعبنا يخوضها بجدارة، فينقلنا بأسلوب مميّز، إلى أسلوب السرد زمن الاعتقال (السرد القصصي)، وببراعة وإبداع منقطعي النظير، إلى أسلوب آخر من السرد عبر حوارات متشابكة فيأتينا العمل الإبداعي، متكاملاً أشد التكامل، يحاور الماضي على قاعدة استشراف المستقبل، فتتسرّب البسمات الحافظة، لتزّين، ولو للحظات حياتنا التي نعيشها في زمن الحجر، لكن دموع الحزن سبقت الترويض فتركت لدينا تفاصيل مؤلمة وحزينة، سالت على وجهنا وذاكراتنا، كنتيجة لزمن الاعتقال.
يبدأ نصوصه بالفرح الذي انتابه، وقد قرّر أن يزور ابنته "رزان" الدكتورة في طب الأسنان في مدينة القدس، ليرى عيادتها مرّة أخرى، بعد أن تذكر حالة الفرح عندما وضع أضراسه بين أناملها، وبحنوّ الابنة المشتاقة، راحت تداوي أضراس والدها الزائر، من رام الله إلى القدس، والمسافة لا تبعد سوى عدة كيلومترات، يفصل بينهما حاجز قلنديا بكل ما يعينه ذلك من تفريق، لكن اللحظة لم تدم طويلاً؛ بل انسابت في ذاكرته، فتركها تسيل في ذاكرتنا، إذ تذكّر الألم الشديد بسبب وجع الأضراس الذي أصابه وهو في السجن، وكيف أن "ألم الأسنان في سنوات الاعتقال يحوّل حياتك إلى جحيم لا يطاق، وتحديداً في الليل، ولطالما تهيأ لك أن ليل الألم بلا نهاية، وأن طلوع الفجر سيعاندك طويلاً، وما عليك سوى التجلّد والثبات". سرح الكاتب بين يدى ابنته، يحدّث نفسه، أو يحدّثها، أو يحدّث آخرين" ألم الأسنان في المعتقل طويل طويل، تتلوّى على برشك، تصبّ جام غضبك على الصبح الذي لم يأتِ" وعندما يأتي "تضطر للانتظار لأسبوع أو أسبوعين أو أكثر بانتظار أن يأتي دورك على قائمة الطبيب"، وتتكرر العملية بين ألم اللّيل ووجعه الذي لا يحتمل، تذكّر الكاتب حسن تلك اللحظات وكاد أن يصرخ من شدة الألم، لكن فجأة تذكّر أنه بين يدي ابنته الشابة الطبيبة المعالجة، التي تفتح أبواب الفرح إلى هذا القلب، الذي عاش مثل غيره، من ألم الاعتقال ووجعه، وكأن قطار العمر يعبر إلى محطات أبعد"، النضال والسجون ماضيها، والابنة المعالجة مستقبلها، والحجر القسري الذي يلف واقعنا المعاش.
ومثلما يثير ألم الأضراس أوجاعاً شخصية للمعتقل، يتحملها بمفرده، ويتقلب ليل نهار بأوجاعها، ينقلنا حسن عبد الله إلى تجربة أشد ضراوة، وأنت تحمل قضيتك من الاعتقال، وتسعى لتحسين الحياة فيه، وينقلنا في نصوصه في فصل آخر، إلى قضية جماعية: إما تحسين شروط الحياة في السجن، وإما الإضراب عن الطعام؟
مطالب بسيطة تحملها لجنة المعتقلين إلى إدارة السجون؛ لكن الكاتب المعتقل يدرك أن الاحتلال سيرفضها لسببين: الأول، أن إذعان إدارة السجون تعني الخروج عن مبدأ الاحتلال الذي يتعامل به مع المعتقلين كأرقام بلا شروط مهما كانت بسيطة، أما الثاني الذي يخيفهم، فهو تحريك الرأي العام إلى جانب المعتقلين، وتبدأ عملية الإضراب، وترتفع مستوياته، بين مقهور يسعى للخلاص من الأمر، وبين سجال يفقد قيمته إذا أذعن للمطالب، والنتيجة الواقعة ليست في تفاؤل ساذج أو تشاؤم عدمي؛ بل خيار يدعو إلى التأمل والهدوء.
في الأيام الأولى للإضراب، يحاصر الخوف المضربين، وتحاصرهم أسئلة صعبة حول معنى الحياة، ولا يرى المضرب سوى خيار واحد، هو "الثبات والانتصار، على الرغم من تقلّص المعدة والأمعاء، وبداية ظهور الإرهاق والتعب في الجلوس والنوم، والقدرة على الحركة".
وتبدأ المفاوضات، وفي ذهن كل معتقل توقع المطالب نتيجة مشرّفة تحققها اللجنة تجعل للإضراب معنى وقيمة"، كان المعتقلون عندما تتحقق بعض المطالب يفيقون من سباتهم، وتتفجر الطاقة في أجسادهم، التي أصبحت هزيلة، بعد أن فقد كل واحد منهم نصف وزنه".
ويروي الكاتب حلماً طريفاً، أن أحد المضربين استيقظ من نومه نهماً، مفزوعاً، وعندما سأل عن السبب، أجاب: حلمت أن جبلاً من الأرز واللحم، كان أمامي وأنا جائع، وكان الأمل مرهوناً بوصولي قمة الجبل، ومنذ مدّة وأنا اجتهد حتى أصل القمة، وللأسف، صحوت دون أن أصلها... ودون أن ألتهم الأرز واللحم، وأسوي الجبل بالأرض، وانفجر الجميع بالضحك، والنكات الهستيرية كل حسب طريقته.
وفي الإضراب، بعيداً عن جبل الأرز واللحم، يستمر الصراع، وتستنفر حواسك لمعرفة صداه في وسائل الإعلام، أولاً، ونفوس المشرفين على إدارة السجون، ثانياً، ولسان حال المضربين وأدوات استمرارهم، "الثبات، والماء والملح، وتفنين الحركة، واتّباع إرشادات الخبراء من المعتقلين الذين سبق أن خاضوا عدداً من الإضرابات، وتعلموا منها بتجاربهم الذاتية المباشرة، مواقف كثيرة، تفصيلية رواها الكاتب في حياة المضربين المباشرة، ومع الآخرين، يختمها بقوله: "إنك في المعتقل، والإضراب، صاحب قضية كإنسان من حقه أن يعيش بكرامة ومعنويات عالية"، وعملية الصراع بين جوع المعتقلين والوهن الذي يدّب في أجسادهم ويفقدهم القدرة على الحركة، وبين وسائل السجون التي تستنفر مفهومها الخاص بالاهمال ومنع الزيارات وغيرها من الوسائل، وعلى الأغلب كان الصراع يؤدي إلى انتصار المضربين على الأقل، من الناحية الإعلامية.
وفي ظل الحجر القسري بوباء الكورونا، يعود بنا الكاتب في بعض سيرته الذاتية، وعلاقته مع "البطيخ"، الفاكهة التي تشتهر بها فلسطين، خاصة في منطقة جنين، حيث بدأت قصته منذ الطفولة، عندما كانت العائلة تتحلق حول البطيخة المشرّحة وتأكلها دفعة واحدة، ويروى لنا عدّة تفاصيل في علاقته مع البطيخ، وكيف شكّل مع مجموعة من أصدقائه في الطفولة عصابات تقوم بغزوات بطيخية على الحقول المجاورة لقريتهم، وكيف اتفق مع أصدقائه في جامعة بيت لحم بالتهام البطيخ لرخص سعره. وفي اعتقال الكاتب حسن الأول، وكيف كانت والدته تحوّل الغذاء إلى مأتم لأن زوجها أحضر البطيخ وحسن موجود في السجن، وتقول "لا طعم للبطيخ إلا بوجود حسن، وتبدأ في البكاء.
ومأساوية البطيخ في الاعتقال أكبر من حوارات البيت، فبينما هو في الاعتقال في صيف العام 1982م، أحضروا شرائح بطيخ بدل حبة البرتقال، فرح في بداية الأمر "سيكون يوماً اعتقالياً بمذاق حلاوة البطيخ" لكنه اكتشف أنها رقيقة جداً، وانقلب الموقف من فرح إلى حزن، قرّبها من أنفه وشمها، واحتار"ماذا أفعل بها، هل أقضمها دفعة واحدة وأثأر لحرماني من البطيخ لهذا العام" وشعر كم هي قاسية حياة الاعتقال" واعتبر أن أكلها تماثل مع الاضطهاد، وتوجه إلى سلة المهملات وقذف بالشريحة بإهمال متعمد.
وفي العام 1986 بينما الكاتب معتقل للمرة الثانية في سجن الخليل، أحضرت إدارة السجون بطيخاً أصفر، وعندما استفسر المعتقلون عن سر هذا البطيخ، قال السجّان المناوب: "إنه حصيلة تجارب زراعية لإنتاج بطيخ بألوان مختلفة، وهذه الكمية التي وزعته على المعتقلات هي تجريبية"، إحساس غريب، بطيخ يعاني من صفرة الموت، ولم أتقبل بطيخاً خارج اللون الأحمر، وللمرّة الثانية أحمل شريحتي وألقي بها في سلة المهملات لأخسر شريحتين في الاعتقال واحدة حمراء والثانية صفراء".     
ارتفع سعر البطيخ في فلسطين بعد وباء الكورونا، دون سبب معروف، نظر الكاتب إلى طبق البطيخ الذي أعدّه له ابنه "إياس" فحمله وأعاده إلى الثلاجة، وقال لابنه المستغرب "اكتشفت أنني لا أجد رغبة بأكل البطيخ في الحجر، امتنعت عن شريحة بطيخ رقيقة في اعتقالي الأول، وامتنعت عن أكل شريحة بطيخ صفراء في اعتقالي الثاني، ولكي لا أُسيء لذكرى البطيخ في مخيلتي، أسجل امتناعاً ثالثاً في الحجر، وكأن البطيخ مرتبط بالحرية حتى ولو كانت نسبية، كأن الكاتب قد وظف فكرة الشاعر أبو الطيب المتنبي، الذي أعاد قراءة ديوانه زمن الكورونا، حين قال: 
ومن يكُ ذا فم مرّ مريض
يجد مرّاً به الماء الزلالا
ويبدو أن مرارة الماء الزلالا، التي تنبأ بها المتنبي، تهاجمنا وتدعونا، كما يقول الكاتب، "لاستدعاء شاعر قديم محترف في البكاء على الأطلال، وتمزيق المشاعر حزناً وهو يرصد أصواتاً متخيّلة وآثار خطوات على الأرض أدماها الرحيل". رحيل من نحب، نتخيّلهم وكأنهم" أطلال مكان وأطلال بشر" وجدها الكاتب حسن بعد غيبة عدّة أسابيع في الحجر الوبائي، وتلعثم أمام مكتبه المقابل لقاعة المربية المرحومة "هيام ناصر الدين" التي كانت تتفاءل به، "والتي رحلت وبقي يتفائل بالقاعة التي تحمل اسمها.
 ولكن الرحيل يتواصل، وتستمر ذكريات من رحلوا، وقف الكاتب أمام القاعة باحثاً عن "حافظ أبو عباية" ليقدّم مداخلته، في المؤتمر التاسع من إبداعات انتصرت على القيد، الذي يعقده كل عام، مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس، في قاعة الكلية العصرية الجامعية، لكن حافظ لم يأت، لقد رحل بعد أن قدّم نسخة من مداخلته، واختفت طفلته "جنان" التي تعلّقت به، وتعلّق بها، وظلت ترافقه، تكاد ترقص بخيلاء عندما يأتي دوره في الحديث" تتابع كلماته بفرح، وتقلّد حركاته بشغف، تتحرك شفتاها مبتسمة مع شفتيه بتلقائية، تفرح إن فرح، وتغضب إن غضب"، وكأن الطفلة قد كبرت من مؤتمر إلى آخر... ستة مؤتمرات عقدت هنا لستّ سنوات، وعمر الطفلة يقفز أما عيني، وعيون من حضروا، من أربع إلى عشر سنوات، كبرت وهي تمتع نظرها وقلبها بأبيها المتحدث المتمكن الودود"، فالمؤتمر كان فرحتها بأبيها، وغيابه عن القاعة يعني غيابها".
 لم تكن علاقة الكاتب حسن عبد الله بحافظ أبي عباية حديثة العهد؛ بل امتدت حميمة وودودة إلى سنوات الاعتقال في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عرفه مناضلاً ومن قدامى المعتقلين، وعرف قصته مع طفلته الكبرى "حنان" التي كانت تستعجل "كسر القيد حول معصميه، ليحضنها بلا قيود"، ويتساءل: كيف لي أن أنسى ذلك؟! وهل هذا يُنسى أصلاً؟ ويجيبنا بأسى ومشاعر إنسانية لا حدود لها، يقول بصوت متهدّج حول اعتقاله الأول: "في يوم شتوي عاصف، علمت من قدامى المعتقلين في الغرفة، أنهم سيقيمون حفلاً تكريماً لحافظ في الذكرى الخامسة عشرة لاعتقاله، ولمّا حان الموعد أجلسوه "كالعريس" في صدر الغرفة، ثم هاج المكان بالكلمات الحماسية والأغاني والشعر والمشاهد التمثيلية التي كان مسرحها غرفة مكتظة بالمعتقلين، طلب عريف الحفل من المحتفى به إلقاء كلمة الختام، فتحدث حافظ في البداية بصوت جهوري، إلاّ أن نبرته تغيّرت حينما أتى على ذكر طفلته "حنان" التي اعتقل ولم تكن قد أكملت عامها الأول بعد، وكبرت أمام عينيه خلف شباك الزيارة، اختنق صوته في حنجرته وسالت دموعه على وجنتيه، وانسحب من الاحتفال إلى فراشه وسط ذهول المعتقلين"، نام حافظ، أو حاول أن ينام، لم يشأ أن يراه رفاقه في حالة ضعف إنساني.
يقول حسن بعد بضع سنوات وفي اعتقال لاحق: "أية مشاعر عصفت بحافظ وهو يتحدث عن ابنته، فعندما جربت الاعتقال والأبوة، وصرت أرقب طفلتي "رزان" من خلف شباك الزيارة، أتذكر حافظ وابنته "حنان".
ويضيف: "كانت قصة "عرس حنان" أول قصة كتبتها في الاعتقال، وكان الموقف كفيلاً بأن يخرج نصاً من قلمي ووجداني لكاتب شاب مبتدئ، ليرى النص النور في مجموعتي القصصية الأولى "حمامة عسقلان".
مهما كتبنا عن هذه المشاعر الإنسانية الحزينة، ومهما دمعت عيوننا، إلاّ أن القلب في زمن النضال ما زال ينبض بالحياة، ويحلّق مع الطيور في الأعالي، ويرسم لنا صورة الحرية والاستقلال.