كيف الرحمن على العرش إستوى؟ وكيف كان العرش على الماء؟

يبدو أنه قد بات من المتعسر على العرب، بعد تعجّمهم، تخيل المعاني من غير تجسيم، ولا شك أن العودة إلى مثل تلك المهارات في لغة العرب يتطلب جهداً كبيراً قد يتطلب اجيالاً من التأمل بمعاني الألفاظ وادراك العلاقات التي تعترب بها تلك المعاني.

كيف الرحمن على العرش إستوى؟ وكيف كان العرش على الماء؟

كيف الرحمن على العرش إستوى؟ وكيف كان العرش على الماء

إن أشد ما وقع على المسلمين هو الجدل في الذات الإلهية، فقد أُنزل القرآن عربياً لا يجادل فيه العرب، ولكن لما وصل إلى العجم ولما صار العرب يعجمون في لغوهم ظهرت فرق الكلام، حتى اختلف الناس على فهم الذات الإلهية، وهذا حالهم حتى يومنا. 

قال الإمام مالك بن أنس: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

تعددت الروايات عن مالك بن أنس بألفاظ مختلفة حتى بات التحقق من حديثه هو المسألة الصعبة بغض النظر عن محتوى الحديث، ولا جدوى من تعداد تلك الروايات وتفنيدها في مقالة كهذه ولكن نلخص فحواها بأنها تتمحور على نقاط خمس:

١- الاستواء معلوم، أو برواية أخرى معقول، وبثالثة غير مجهول.
٢- الكيف مجهول، أو أو برواية أخرى غير معلوم وبثالثة غير معقول.
٣- الإيمان بالإستواء واجب.
٤- السؤال عن الاستواء بدعة.
٥- السائل عن الإستواء من أهل السوء.

اولاً لا بد من التذكير بأن ما من عالم معصوم عن الخطأ وما من راوٍ معصوم عن الخلل بالكلام، لذلك سنعتني بالمقصود من الروايات دون الخوض بألفاظها خصوصاً أن جميع الروايات عن مالك في هذا المجال ولو اختلفت ألفاظها يمكن توحيدها في المقصد.

كما لا يهمنا إن كانت كل النقاط الخمس التي لخصناها قد وردت فعلاً على لسان مالك، أو أن بعضها قد أضافه الرواة على ما قال مالك اجتهاداً منهم واعتقاداً أن هذا يزيد ويؤكد معنى الرواية. نناقش تلك النقاط بغض النظر عن مصدرها، فما يهمنا هو تأكيد أو نفي صحتها.

ولا يهمنا إنقسام الناس في هذا الأمر إلى ثلاثة فرق، فريق متهم بتجسيم الله عز وجل، وفريق متهم بإنكار النص القرآني، وثالث لا ينظر في الأمر لاستحالته على عقولهم. ونرى أن الثالث منهم فقط هو من أخذ بحديث مالك على حقيقة معناه بينما إنخرط الأولان في جدال يتراشقون به بجهلهم ومن غير علم مؤكد ذو نتيجة حاسمة ولا تقبل الجدل.

يقول إبن باز: "فالاستواء: هو العلو والارتفاع فوق العرش، وهو معلوم من حيث اللغة العربية"...."هذا هو الواجب على أهل الإسلام أن يؤمنوا بهذه الصفات الاستواء والرحمة، والسمع والبصر، والغضب والوجه، واليد والقدم، والأصابع وغير هذا من صفاته سبحانه وتعالى، كلها يجب إثباتها لله على الوجه اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل لصفات الله، ولا تكييف لها، ولا تمثيل لها".

يقول الشيخ جعفر السبحاني: "ما ذكره الكاتب المصري (أحمد أمين) حول عقيدة الأشاعرة في الصِّفات الخبرية، قال:«وأمّا الأشاعرة فقالوا إنّها مجازات عن معان ظاهرة، فاليد مجاز عن القدرة، والوجه عن الوجود، والعين عن البصر، والاستواء عن الاستيلاء، واليدان عن كمال القدرة،والنّزول عن البرد والعطاء،والضحك عن عفوه».

ويتابع السبحاني، ما ذكره [أحمد أمين] هو نفس عقيدة المعتزلة لا الأشاعرة ولا الماتريديّة. فالمعتزلة هم المؤوّلة، يؤوّلون الصِّفات بما ذكره، والأشاعرة من المثبتة لكن بقيد «بلا كيف» والماتريديّة هم المفوِّضة، يفوِّضون معانيها إلى قائلها."

وهكذا هو الجدل من غير علم يأتيهم بعائداته التي لا تقبل جدلاً، فمن أين جاؤوا بالإدعاء أن الإستواء هو العلو والإرتفاع؟ أو هو الإستيلاء والهيمنة والسيطرة؟ لا أصل لكل ذلك في لغة العرب.

الإستواء في لغة العرب هو الإستواء... ولا شيء غير ذلك. إستوى أي كان سوياً بذاته دون حاجة لمن يسويه أو يسوِّيه، والسوي له صفات منها كماله وعدله وإنصافه وإنعدام السوء والنقص في ذاته... وما الى ذلك من صفات حميدة. ومثل هذا الفهم سهل على من يفهم العربية، فالمتساويان متعادلان ومتناصفان (من الإنصاف)، والمتناصفان (من النصف) متكاملان... وهكذا هو السير في دروب المعاني فلسنا من العجم كلماتهم منفصلة عن بعضها بلا جسور، بل هي كلماتنا مترابطة متسلسلة معربة فيها دقة التعبير وتدرجه. 

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)} (آل عمران).

وفي تفسير الطبري: "(إلى كلمة سواء)، يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا.". 

هنا اخذ الطبري كلمة سواء على معنى العدل (أي كلمة فيها المساواة والإنصاف) ثم فسر شروط العدل في توحيد الله وعدم الشرك به.

ثم ينتقل الخطاب القرآني لأهل الكتاب إلى الحجة، والعقل، والعلم، ثم اللوم على الجدل فيما ليس لهم به علم. وهذا الخطاب يصح على أهل الكتاب كما يصح على المسلمين.

من هنا نفسر معنى إستوى، أي كان عادلاً منصفأ كاملاً وغيره مما يرتبط بهذا المعنى. 

بيد أن تفسير معنى الإستواء ليس هو أصل المعضلة وليس هو سبب شرود الذهن نحو تجسيم الله عز وجل، بل كان السبب في تفسير معنى حرف الجر "على" وقبله تفسير معنى العرش.

صحيح أن حرف "على" يفيد العلو والإرتفاع فوق الأشياء المجسمة، ولكن هذه الصحة تتوقف عند اقتران حرف الجر "على" بالاشياء المجسمة، ولا تتعدى إلى حالة الاقتران بالمعاني غير المجسمة، فمن كان على يقين لا يعلو فوق اليقين في مكان، ذلك لأن اليقين لا يحدد بمكان. 

{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) التوبة}. من الواضح هنا أن "على" لا تدل على علو أو ارتفاع فوق الله عز وجل.

من هنا نخلص إلى أن العلو والإرتفاع في تفسير الإستواء ومثله التفسير بمعنى الإستيلاء ليس إلا نتيجة لتجسيم العرش واعتباره شيئاً مادياً محكوماً بزمان ومكان وبالتالي لا بد من تخيل الرحمن، كذلك الأمر، كشيء مادي يعلو فوق العرش أو يستولي عليه، مما يحتم على المرء التفكير بكيفية ذلك الإستواء المزعوم بخيالهم والبعيد عن الفهم العربي للكلمة.

يبدو أنه قد بات من المتعسر على العرب، بعد تعجّمهم، تخيل المعاني من غير تجسيم، ولا شك أن العودة إلى مثل تلك المهارات في لغة العرب يتطلب جهداً كبيراً قد يتطلب اجيالاً من التأمل بمعاني الألفاظ وادراك العلاقات التي تعترب بها تلك المعاني.

عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
               وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

العزيمة في لهجتنا هي الدعوة إلى تناول الطعام (الوليمة) وجمعها عزائم، ولو نَحَوْنا بهذا المنحى في تفسير بيت الشعر لكان القدر هو الوعاء الذي فيه الطعام. 

والعرش إن لم يكن جسماً فهو إسم لفعل، ومن بين معانيه في القاموس المحيط: ـ عَرْشُ من القومِ: رَئيسُهُم المُدَبِّرُ لأمرِهِمْ.
وفي المعجم الوسيط: العَرْشُ : المُلْكُ.

فالأصل أن العرش هو الرئيس (أو المَلك)، وهو المُلْكُ (أو الرئاسة)، ومن ذلك سمي المكان أو المقعد الذي "يعرش"، أي يحكم منه الملك، سمي عرشاً. هذا يوفر لنا ثلاثة خيارات، فالعرش هو إما من يمارس فعل الرئاسة والمُلك، أو هو فعل الرئاسة والمُلك، أو هو مقعد الرئيس أو الملك. والمعنى الأخير هو ما نستثنيه من التفسير لاحتوائه على التجسيم لا محال، ولكونه مُحدثاً وليس اصلاً. 

والرئيس أو الملك هو "ولي" الأمر والمدبر والحاكم في بلده... 

قوله تعالى في سورة السجدة:
﴿4﴾{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} يدل على أن ذي العرش هو الولي الشفيع، ومن ذلك نخلص إلى أن العرش هو فعل الولاية والشفاعة، ومن ذلك إذن هو الرئاسة والمُلك. أي أن العرش هو فعل وعمل مثل العوم والصفح وليس شيئاً مجسماً مثل مكان القعود، وهذا مثل قولنا فلان اعتاد على العوم أو على الصفح. 

أو مثل قولنا: زيد بقي على العهد ينتظر أخاه. لا شك أن الإنتظار هنا هو على علاقة وثيقة بالعهد وتفسير له. 

وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16)(البروج)... 
ذو العرش... فعَّال...، وفي ذلك يأتي تفسير العرش بأنه فعل لما يريد. وإن إستعنا بما سبق، ففعله هو ولايته على خلقه. 

ومما يشبه ذلك، في الآيات التالية، يأتي تفسير الإستواء على العرش بطرق مختلفة بعد ورود كلمة العرش... وهو تفسير يتمحور بشكل عام حول معاني الولاية وما يتعلق بها من تدبير الولي العليم لشؤون ما خلق:

﴿3﴾إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (يونس). إستوى على العرش... يدبر... 

﴿4﴾هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد). إستوى على العرش... يعلم... 

﴿2﴾اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (الرعد). إستوى على العرش... وسخر... يدبر... يفصّل.. 

﴿15﴾رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (غافر). ذوالعرش... يلقي الروح... 

﴿54﴾إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(الأعراف). إستوى على العرش.. يغشي الليل النهار... 

في كل هذه الآيات بعد كلمة العرش يأتي ما يفسرها بشيء من معانيها، ومن الأفعال التي يفعلها العارش. 

ومن هنا منبع تفسير المعتزلة للإستواء بمعنى الإستيلاء ويغلب على ظني بأن من نقل منهم من هذا المنبع قد أخطأ بإضافة العرش على الإستيلاء، ذلك لأن العرش هو الإستيلاء (تولي الولاية) بذاته وفعل عَرَشَ معناه إستولى، فالصحيح أن جملة "على العرش استوى" تعني استولى (أي تولى الولاية) بكلمة واحدة دون إضافةٍ إليها. ولكن هي ولاية ذات صفات منها العدل والإنصاف والكمال والقدرة والسيطرة... الخ، صفات تلخصت بلفظة "إستوى". 

نقول استولى رجلٌ، ولا يصح أن نقول استولى رجل على الحكم، لأنه إن استولى فهو قد أصبح والياً حاكماً، وإضافة "على الحكم" هنا زائدة لا لزوم لها، بل نقول استولى رجل على الشعب، اي كان والياً عليه... وإن هم ولّوه يكون ولياً لهم. ومثل ذلك قولهم "استولى على العرش"، "على العرش" هنا زائدة لا لزوم لها. 

وإن كان السؤال: على ماذا استولى؟ نقول استولى على خلقه، أي كان والياً عليهم ولياً لهم مدبرا لشؤونهم ومسيراً لها.... كما ورد في الآيات الكريمة. 

والنتيجة: "على العرش إستوى"، أي تولّى تدبير شؤون خلقه بالعدل والإنصاف. أو إستولى على خلقه بالعدل والإنصاف. 

للمضي قدماً إلى ما كان أكثر تعقيداً من ما سبق لا بد أن يكون قد رسخ في ذهن القاريء معنى العرش غير المجسم وبمعنى الولاية وحكم الأشياء وتسييرها وتدبير أمورها. فالآيات التالية هي ادعى للتجسيم من السابقات لمن يستسهل التفسير. 

﴿17﴾وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (الحاقة) 

اللغز في هذه الآية يكمن في كلمة ثمانية التي عادة ما تفسر بمعنى العدد اي ثمانية أشياء. ولكن الكلمة هي أيضاً صيغة جمع لكلمة ثَمَانيْ، والثماني هو من اختص بتقييم السلعة وتحديد ثمنها، وفي حالتنا هي الملائكة المختصة بتقييم الأعمال وتحديد ثمنها أو أجرها، وهي ليست محدودة بعدد.

  فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) (العلق). 

والزبانية مثل الثمانية، وبنفس الصيغة اللغوية، هم الملائكة الذين يحددون الأثمان والأجور، ومن ذلك كلمة زبون بمعنى الشخص الذي يساوم أثمان السلع ليشتريها، ولكن الزبانية يتعدون التثمين إلى إعطاء الأجور، عقاباً أو ثواباً، لكل إمرءٍ ما يستحق.

 وإن قيل أن عمل الزبانية يكمل عمل الثمانية، أي تنفيذ العملية بعد التثمين، فلا بأس عندي بذلك، فالزبون يبقى زبوناً ما دام يشتري حتى ولو منع من السوم.

واللغز الثاني هنا هو في كلمة "يحمل"، وتفسيرها أن الثمانية (المثمِّنون، السوّامون) يحملون العرش، اي يحملون الولاية والحكم، كمن يحملون المسؤولية ومهام التثمين والسوم، وليس كمن يحملون اشياء مجسمة. 

بذلك يكون تفسير الآية: يحمل تدبير ربك وحكمه يومئذ من يثمن أعمال الخلق. 

﴿75﴾وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الزمر)

حافّين من حول العرش، أي حافّين من قوة وقدرة العرش، والعرش هنا هو المَلك (الجبار القدير الولي الحكم العدل)، وهذا من المعاني الثلاثة التي اسبقنا ذكرها، ويجوز أن يكون المُلك (الولاية والتدبير)... فكلمة حول هنا تعني القدرة والقوة ولا تعني الإحاطة بمكان وجسم. وهذا مثل قولنا لا حول ولا قوة الا بالله. 

أما قولهم أن حرف الجر "من" هو زائد على المعنى وأن القصد هو (حافين حول العرش) والغرض من زيادة حرف "من" هو توكيد المعنى.. فباطل لا أساس له وهو تحريف لكلام القرآن، وطريق نحو التجسيم. 

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۗ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) (هود).

لتفسير الآية نستعين ببعض المعاني التي وردت في ما سبق، وكان عرشه على الماء، اي كان تدبيره على الماء، وكان يعلم كل ما يحدث في الماء، وكان تسخيره للماء، والقى الروح على ما شاء من الماء، وسير الشمس والقمر والنجوم المخلوقة... هذا ما يخص تفسير معنى "عرشه"، أما معنى الماء فنسرده بمختلف تأويلاته. 

فأشهر المتداول من معاني الماء في أيامنا هو تلك المادة المائعة المكونة من ذرة اوكسجين وذرتي هيدروجين، أي ماء الشرب وفي هذا الباب قوله تعالى:
وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴿٦٥ النحل﴾ ومثلها آيات أخرى... 

أحيا به، أي أن الماء كان وسيلة مساعدة لإحياء الأرض، بمعنى أن مادة الإحياء (البذور) كانت من الأرض ولا بد من ماء لاتمام نموها. 

وفي آيات أخرى نجد الماء بمعنى مختلف كقوله تعالى:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴿30 الأنبياء﴾

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴿54 الفرقان﴾

في هذه الآيات الماء هو المادة الأولية للخلق، والفرق أن الخلق لم يكن بالماء وإنما من الماء، إذن هو ماء آخر مختلف نستوضحه من قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ﴿٨ السجدة﴾

وقوله: خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴿6 الطارق﴾ وأيضاً: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ﴿20 المرسلات﴾

وأيضاً: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٤٥ النور﴾

إذن هو ماء فيه كل ضرورات الخلق وما تبقى غير الماء ليس إلا مجرد وسائل مساعدة ضرورية للنمو. وفي الآية ٤٥ من سورة النور: "خلق كل دابة من ماء" أي أن كل دابة خلقت من ماء مختلف عن ماء الأخرى فكانت أنواع الدواب المختلفة. 

لا شك أن ماء الشرب وكذلك الماء الدافق والمهين لم تخلق قبل السماوات والأرض في الستة أيام لأن تلك المياه هي جزء من ذلك الخلق. وهذا يقود إلى ماء ذو طبيعة مختلفة كان موجوداً من قبل ومنه خلق كل الخلق وهو أول الخلق. 

من الصعب على من لم يدرس علم الفيزياء الحديث أن يفهم طبيعة المادة الأولية التي خلق منها الكون، هي نظريات مازال طرحها معقداً حتى بالنسبة لأصحاب الإختصاص.

بعضهم يقول أنها جسيمات متناهية الصغر منتشرة في كل أنحاء الكون... يدرسون كتلها ووزنها وسرعتها.. وبعضهم يقول أنها طاقة تتشكل في ترددات موجية لتشكل المادة.. والحديث في ذلك شديد الوعورة، وما زال فيه إبهام كثير، وذلك يستلزم فهم المعادلات الفيزيائية وإتقان علم الحساب، وهذا ليس موضوعنا الراهن، وما قلناه يكفي لمتابعة حديثنا. 

والسؤال هنا، هل تنطبق صفة الماء على مادة الكون الأولى قبل الخلق؟ أيما كانت تلك المادة؟

ام أن كلمة "ماء" في أصلها كان معناها مادة الخلق، ومن ذلك أطلق الإسم فيما بعد على ما نشرب وعلى ما خلقنا منه الماء المهين... وهكذا... كل شيء أصل خلقه ماء، مع إختلاف نوع الماء في كل حالة؟ 

وليس هنا مجال البحث في أصول الكلمات، لكن أتسائل،... العدم هو الحالة التي سبقت الخلق  ولفظة "ما" في العربية تدل على العدم (عدم الحدوث، ما أكلت وما شربت)،... والأم هي مصدر الحياة، فهل الكلمتان على صلة بكلمة ماء؟ 

وأيضاً، "المادة" هي ما خلق الله لما كان عرشه على الماء... هل تشابه اللفظ كان صدفة ام هو معنى قد تم اشتقاقه بعضه من بعض؟ ما، ماء، أم، مادة (بالروسية الأم "مات"، وبالإنجليزية "ماذر").... آخذين بعين الإعتبار أن حرف الميم كان يكتب في الأبجدية الأولى على شكل موجة ماء... والموت هو العودة إلى العدم!!!

مهما كانت النتائج التي ستظهر مستقبلاً في علوم الفيزياء، فالآية الكريمة تقول أن تدبير الخالق وتسييره وتسخيره (أي عرشه) على تلك المادة الموصوفة بالماء نتج عنها خلق السماوات والأرض وما فيهما في ست أيام.

ولن نغوص في معنى الأيام، فالأيام التي نعرفها هي نتاج دورة الأرض حول الشمس الذين لم يكونا قد خلقا في ذلك الوقت. ربما هي ست دورات، أو ست مراحل تناوبت حتى تم الخلق. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ۚ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (47)(الحج). 

إن الإستزادة في فهم الأمور مرهونة بتطوير معارف البشر في مختلف مجالات العلوم، فمع كل علم جديد فهم جديد.