النُطف المُحرَّرة كفعل مقاوم
لقد أدرك الأسرى منذ بدايات الاحتلال، وبوعي كبير، أن الحياة داخل السجون يجب أن تستمر، لذا، تراهم يتعالون على قيدهم، ويحاولون تناسي ما حلّ بهم من ألم ووجع، ويفكرون دائماً في ابتداع أسباب للفرح
لقد أدرك الأسرى منذ بدايات الاحتلال، وبوعي كبير، أن الحياة داخل السجون يجب أن تستمر، لذا، تراهم يتعالون على قيدهم، ويحاولون تناسي ما حلّ بهم من ألم ووجع، ويفكرون دائماً في ابتداع أسباب للفرح. ويدركون كذلك أن إسعاد النفس لا يتأتى إلّا بالثبات والتحدي وتحقيق الانتصار على مَن يسلب حريتهم. فتراهم يفكرون ويبدعون ويناضلون لانتزاع حقوقهم وتحقيق المزيد من الانتصارات على سجانيهم، ومع كل انتصار جديد يفرحون ويُسعَدون. هذه حالهم وتلك هي حياتهم. وتهريب النطف المنوية هو واحدة من معارك التحدي التي خاضها الأسرى وحققوا فيها الانتصار الذي منحهم السعادة والحياة. فخلف القضـبان رجال يتحدّون السجان، ويعانقون الحياة التي ناضلوا من أجلها، ويهرّبون النطف المنوية لكي تنجب نساؤهم أطفالاً لهم يحملون أسماءهم من بعدهم، ويقاتلون من أجل حياة أفضل.
يوم الخميس الماضي الموافق 7 أكتوبر2021، أنجبت رنان حامد، زوجة الأسير إسلام حامد (36عاماً)، من بلدة سلواد شرق رام الله ، توأمين، ذكراً وأنثى: محمد وخديجة ،بواسطة نُطف مُحرَّرة (مُهرَّبة) من زوجها الأسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ نحو ستة أعوام.
حالة الأسير إسلام حامد تُعتبر الثالثة هذا العام، وبولادة التوأمين فإن عدد "سفراء الحرية"، وهو مصطلح يُطلقه الفلسطينيون على أطفال النطف المهرَّبة، يرتفع ليصل إلى (99) طفلاً. بينما حمل الأسير إسلام حامد الرقم (70)، وهو مجموع الأسرى الذين خاضوا التجربة بنجاح منذ سنة 2012. وعادة ما يخوض هذه التجربة الأسرى المحكومون بالمؤبد، أو لأعوام طويلة، أو مَن يتوقعون أحكاماً عالية.
وكانت فكرة تهريب النطف وزراعة الأنابيب نوقشت بخجل وبصوت باهت أوائل تسعينيات القرن الماضي في أوساط مجموعة صغيرة من الأسرى من ذوي الأحكام العالية، ولاقت حينها قبولاً لدى بعض الزوجات، لتعكس المعاناة الصامتة لهؤلاء الأسرى وزوجاتهم الصابرات، وفي المقابل، رغبتهم الجامحة وإصرارهم الكبير على تحدّي السجان الإسرائيلي وتحقيق انتصار جديد يتمثل في إنجاب نسائهم أطفالاً يحملون أسماء آبائهم القابعين في سجون الاحتلال ويمضون أحكاماً عالية.
لم تغِب الفكرة عن أذهان أولئك الأسرى، ولم تسقط المحاولات من حساباتهم، بل ظلت الفكرة حاضرة على أجندة فعلهم، مؤجلة التحقُّق إلى حين اتساع دائرة القبول وتوفُّر الظروف الملائمة وعوامل النجاح الممكنة. وبعد بضعة أعوام تجرأ عدد من الأسرى على ترجمتها، وتمكنوا فعلاً من تهريب "نطف منوية" مرات عديدة، وعلى الرغم من سرّيتها ومحدوديتها، إلّا أنها عكست ما يدور في وجدان الأسرى وزوجاتهم.
إن فشل المحاولات السابقة وعدم نجاحها لم تُحبط الآخرين ولم تصادر حلمهم، بل بالعكس منحتهم جرعات جديدة من التحدي والإصرار على مواصلة الطريق نحو تحقيق الانتصار المأمول، وحلم الإنجاب المشروع على الرغم من صعوبة ظروف الاحتجاز وتعدُّد الحواجز والمعوقات، وتطور تكنولوجيا المراقبة الإسرائيلية، فكان لهم ما أرادوا، وحققوا ما كانوا يحلمون به حين زرع الأسير الفلسطيني عمار عبد الرحمن الزبن طفله في ظلمة السجن وبذات الطريقة على الرغم من حكم المؤبد، ليبصر مهند النور في رحاب الحرية بين أهله وأسرته ويسجل بذلك الانتصار الأول، بتاريخ 13آب/أغسطس 2012. هذا الانتصار أسس لمرحلة جديدة نحو تعميم التجربة والانتقال من الانتصار الفردي إلى الانتصار الجماعي، وشكّل انطلاقة نوعية نحو معركة علنية ومسيرة مظفرة من أجل انتزاع حق سلبته إدارة السجون الإسرائيلية، وأقرته المواثيق الدولية، وكفلته الشريعة الإسلامية.
نجاح هو الأول بعد محاولات كثيرة، تلته مئات المحاولات وعشرات النجاحات لأسرى كُثر وصل عددهم إلى سبعين أسيراً، وأنجبت نساؤهم تسعة وتسعين طفلاً بالطريقة المعقدة نفسها. ولم يُسجِّل تلك النجاحات أسرى ينتمون إلى هذا التنظيم دون غيرهم، أو يقبعون في سجن واحد، أو أسرى ينحدرون من منطقة جغرافية بعينها، وإنما تعددت الأسماء وتنوعت الانتماءات الحزبية واختلفت مناطق السكن، وغدت ظاهرة لافتة عمّت السجون كافة، وأربكت السجان ومسؤوليه، وأصبحت جزءاً من المواجهة المستمرة مع الاحتلال، وسعياً لانتزاع الحرية، وثورة من أجل الحياة والوجود.
لقد عبّرت تلك الظاهرة عن هم إنساني عميق ورغبة جامحة لدى الأسرى في تحدّي السجان الإسرائيلي ومواجهة سياسة الطمس الإنساني، والتدمير الوجداني الذي تمارسه سلطات الاحتلال بحق الأسرى. فليس أقسى على الاحتلال من هذا التكاثر الفلسطيني، ومن استمرارية الحياة على الرغم من تشديد الخناق المفروض على أولئك المقيدون بالسلاسل. لذا، لم يرُق لسلطات الاحتلال هذا العمل، الذي يُنظر إليه فلسطينياً على أنه انتصار، فأرادت إحباط الفكرة والقضاء على الظاهرة، فاتخذت الكثير من الإجراءات العقابية، الفردية والجماعية، بحق الأسرى وزوجاتهم والمواليد الجدد الذين ترفض الاعتراف بهم. ومع ذلك، لم يكترث الأسرى واستمروا في محاولاتهم، وما زالوا يخوضون التجربة ويحققون النجاحات. فالظاهرة تتسع والانتصارات تتكرر وتزداد.
أن الإنجاب عبر "التلقيح الصناعي" حق أجازه الشرع الإسلامي، وفق ما بات يُعرف بـ "زراعة الأنابيب" للأزواج، ولكن وفقاً لشروط وإجراءات تتطابق مع الشريعة الإسلامية، وأن العيادات المتخصصة بذلك منتشرة في فلسطين والوطن العربي، والأسرى جزء من النسيج الاجتماعي، ومن حقهم الإنجاب عبر التلقيح الصناعي إذا تمكنوا من ذلك، وإذا توفرت الإجراءات والشروط المتطابقة مع الشريعة الإسلامية.
عبد الناصر فراونة/ المركز الفلسطيني للإعلام