أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، المأساة المستمرة. (٦)

إن القيادة الفعلية في المجتمع الفلسطيني كانت وماتزال بيد المبادرات الشعبية التي تعتمد على الطاقات والإمكانيات الذاتية والتي تلعب دورها في الصراع الداخلي بشقيه الإصلاحي والخدماتي، وبالتالي هي تؤسس للصراع الخارجي وتتحكم بمساراته. 

أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، المأساة المستمرة. (٦)
أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، المأساة المستمرة. (٦)

سابقاً، تحدثنا عن واقع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وتوصلنا إلى حقيقة ارتباط معاناتهم بالسياسة الدولية عبر مداخل محلية، والآن حديثنا عن رد الفعل الشعبي الفلسطيني والجبهة المجتمعية، لقراءة الجزء الخامس إضغط هنا.

لقد توصلنا سابقاً إلى أن الفساد الذي تعاني منه الدولة اللبنانية والأونروا ومنظمة التحرير الفلسطينية مع الفصائل الفلسطينية تعود جذوره إلى سياسات دولية تفرض واقعاً يخدم مصالح الدول المتنفذة في العالم.

وفي هذا المجال تستخدم تلك الدول كل الوسائل الممكنة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واعلامياً.

ففي السياسة تهمين تلك الدول على القرار الدولي إما بمنع إصدار قرارات عادلة أو بمنع تنفيذ القرارات في حال اعتمادها. فرغم عدم عدالة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٨١ الذي بموجبه قسمت فلسطين إلى دولتين عربية و"يهودية"، أقيمت دولة الإحتلال بإستخدام القوة العسكرية وتم تشريد الشعب الفلسطيني عن وطنه ومنع عن تأسيس دولة خاصة به، وتلك ممارسة مازالت متواصلة حتى اليوم.

ومازالت الدول المتنفذة تحشد قواها العسكرية والإقتصادية والسياسية والاعلامية ليس فقط ضد الشعب الفلسطيني وإنما ضد كل دولة وشعب يساند الحق الفلسطيني، مما أدى إلى بقاء لهيب الصراع مشتعلاً في كل منطقة الشرق الأوسط.

وهذا الصراع نختصر وصفه بجبهتين متقابلتين، جبهة الشعب الفلسطيني ومعه الشعوب العربية والشعوب المحبة للسلام في مقابل جبهة قوى الاستعمار. والأولى تتسلح بأنظمة حكم وجيوش ومنظمات لا تملك القوة الكافية للتصدي، في حين أن الثانية تتسلح بجيوش مزودة بالتكنولوجيا المتقدمة والإمكانيات الإقتصادية الضخمة، وهذه معادلة بعيدة جداً عن التكافؤ. 

ومع ذلك، فثمة شكل آخر للصراع تتداخل فيه أمور كثيرة، دينية وفلسفسية ومجتمعية وفكرية وأخلاقية... وهذه عوامل مجتمعية لا يمكن إلغائها كما لا يمكن التحكم بها بقوة السلاح حتى في داخل مجتمعات قوى الاستعمار، بل هي من العوامل التي تهدد قوة الاستعمار في داخل مجتمعاته، مما يعيد شيئاً من التوازن بين الجبهات. 

ونتعلم من التاريخ أن الغلبة في نهاية الصراع تكون للقوى المجتمعية، وأن قوى الهيمنة تنهار بسرعة فائقة عندما تتوافر الظروف. ونتعلم ايضاً ان الشرق الأوسط قد خاض تجاربه عبر التاريخ فانتصر المسيح الفلسطيني عليه السلام على قوى الظلام كما رفع الرسول العربي صلى الله عليه وسلم راية السلام في المشارق والمغارب.

ولا أبالغ حين أقول أن أنصار المسيح وصحابة الرسول هم نفسهم، في وجه المقارنة، هم نفسهم اليوم يحملون راية التغيير التي لا بد من أن تنتصر على قوى الاستعباد. وإن إختلاف العقائد عبر الزمن لا يغير شيئاً من قوانين حركية المجتمعات.

وقوى الاستعمار لم تغفل عن هذه الحقائق، بل وبموازاة هجماتها العسكرية والإقتصادية والسياسية والإعلامية، تخوض هجمات مجتمعية تلخصت خلال العقد الأخير تحت مفهوم "الربيع العربي". لقد استغلت قوى الاستعمار الخواص المجتمعية لشعوب الشرق الأوسط لضرب الاستقرار واضعاف جبهة المقاومة فيه. 

ولما كانت الجبهة المجتمعية هي الأساس في الصراع فإن الدول والجيوش والمنظمات والأحزاب هي من أدوات الصراع، وبذلك فهي ايضاً في موضع التماس مع العدو من جهة وهي تحت سقف المسائلة من الشعوب من جهة أخرى.

ولا شك أن العدو يبذل جهوداً لافساد أدوات الصراع من خلال إفساد الحكام ومراكز القرار وآليات العمل، وهذا ما ناقشناه بالحديث عن فساد الدولة والأونروا ومنظمة التحرير وفصائلها. فكل تلك الأدوات تتعرض للإفساد تحت وطأة الضغوط الخارجية وليس نتيجة لعوامل داخلية.

وانطلاقاً من هذا الفهم فإن القوى المجتمعية تجد نفسها أمام مهمتين متوازيتين، الأولى تهدف إلى الحفاظ على وجود وبقاء أدوات الصراع بمعنى حمايتها من الهجمات المعادية، والثانية تهدف إلى صيانة وإصلاح تلك الأدوات بمعنى محاربة الفساد الذي يعتريها.

وبعض القوى المجتمعية في العالم العربي قد إنجرت نحو الخلط بين المهمتين، فتحولت إلى قوى تدمير لمجتمعاتها وهي ترفع رايات الإصلاح. فبعد المعارك نضع سيوفنا المثلمة في الجمر ونطرقها على السندان بهدف إعادة شحذها واصلاحها، وليس بهدف كسرها وإتلافها.

إن الخبرة المكتسبة من سنوات الصراع الطويلة قد أبقت الفلسطينيين واللبنانيين خارج ذلك الخلط بين مهام الإصلاح والتدمير الذي ميز ما يسمى بالربيع العربي، فالطرق على أدوات العدو هو لتدميرها والطرق على أدواتنا هو لإصلاحها.

من كل هذا الفهم تنطلق مبادرات شعبية متتالية في المجتمع الفلسطيني في لبنان، وتأخذ اشكالاً وأسماء مختلفة بحسب المراحل والظروف، ثم تزول بزوال الحاجة اليها، هي عملية مستمرة الجريان شأنها شأن الدماء في عروق الجسد.

إن القيادة الفعلية في المجتمع الفلسطيني كانت وماتزال بيد المبادرات الشعبية التي تعتمد على الطاقات والإمكانيات الذاتية والتي تلعب دورها في الصراع الداخلي بشقيه الإصلاحي والخدماتي، وبالتالي هي تؤسس للصراع الخارجي وتتحكم بمساراته. 

وتتدرج نشاطات المبادرات الشعبية من التعاضد الإجتماعي خلال الأزمات لحفظ كرامة الإنسان والحفاظ على روحه المعنوية، مروراً بتأمين المساعدة الصحية والغذائية وغيرها لمحتاجيها وعلى المدى الطويل، وصولاً إلى ممارسة الضغط على مراكز القرار من خلال الاحتجاج على السياسات والإنخراط المباشر بمحاربة الفساد. 

-يتبع-

حسام شعبان