من الذاكرة . المعبر الصعب .

كان اهل قرى شمال شرق جنين وشمالها يدلفون الى وسط المدينة دون معاناة حيث لا توجد احياء سكنية في طريقهم الى وسط المدينة او السيباط.

من الذاكرة . المعبر الصعب .
د. احمد عرفات الضاوي

كان اهل قرى شمال شرق جنين وشمالها يدلفون الى وسط المدينة دون معاناة حيث لا توجد احياء سكنية في طريقهم الى وسط المدينة او السيباط. برنامج قدومهم وعودتهم سالك وبمواقيت يختارونها فتراهم عند الظهر قد بدأوا بالتجمع قرب دكان المعاني ، كل واحد قد حزم امتعته واستامن عليها احد اصحاب الدكاكين . وعندما يتحرك موكبهم عائدين تشاهد على ظهور دوابهم حاجاتهم التي اتوا من اجل شرائها ، وغالبا مايكون بينها لحاف او الحفة خرجت للتو مت تحت يد السلفيتي ، وقد ترى قدرا او لجنا نحاسيا يلمع تحت اشعة الشمس وقد تم استلامه للتو من المبيض ، ولا تخلو ظهور الدواب من مذراة او شاعوب او طورية . تسير النساء خلف الدواب المحملة وعلى راس كل واحدة منهن جونة تكتظ بطلبات وتواصي اهل تلك القرى ، حتى الفلافل ضمن هذه التواصي حتى لو وصل باردا ، فام فلان توحمت عليه وتسللت ليلا الى احدى النساء القاصدات الى جنين ، ودست في يدها قرشا ورجتها ان تحضر لها الفلافل ، وايا كانت حالته عندما يصل فهو مقبول وافضل بكثير من قلق ظهور حبة الفلافل في وجه المولود القادم ، وربما توصي احداهن على بعض اصابع الكعكبان ليتلهى بها ابنها الرضيع بعد ان ازمعت على فطامه . في كل جونة اصناف والوان حتى السكر والشاي ، ففي تلك المرحلة كان الشاي ضروريا لكل بيت ولا بد أن يدخل في ميزانية كل عائلة فمعظم الاطفال يفطرون على الشاي والخبز قبل ذهابهم الى مدارسهم ، وكان هذا يعد ترفا لدى الكثيرين وخاصة اولئك الذين لا يجدون ثمن هذه السلعة الذهبية وهم كثر .
اما اهالي قرى جنوب شرق جنين وبالتحديد تنين وام التوت ورابا وجلقموس والمغير فكان عليهم المرور بالمراح نزولا الى شارع الدبة ثم يدلفون الى وسط المدينة حتى الحسبة . 
كانت بداية المراح معبرا صعبا لأهالي تلك القرى ، يتسلى بهم سفهاء الحواري وكانوا كثيرين ولا يوجد من يردعهم ، فيتعرضون للعابرين بعبارات يطلقونها دون حياء على الكبار والصغار ، ومن تلك العبارات ياقروي ، يعبثون بالدواب التي يركبها رجال كبار في السن ، يختبئون وراء الجدر ويفزعون تلك الدواب ويتعالى صراخهم وفرحهم عندما تلقي الدابة صاحبها ، واذكر ان كثيرين كانوا يترددون في الذهاب الى جنين بسبب هذا المعبر الصعب ، اما الاولاد مثلي من ابناء تلك القرى فكانوا احيانا يتعرضون للضرب والسخرية والحركات البذيئة.  والغريب في الامر ان احدا من سكان تلك الحواري والاحياء الكبار لم تستوقفه هذه البذاءات التي كانت وجبة يومية من سفهاء تلك الحواري .
في يوم ربيعي دلفت من المراح نزولا ، فوجدت السفهاء قد انفردوا بصالح ، وشدوا ثيابه لإظهار عورته ، وكان هذا العاقل المجنون اشد منهم حرصا على ان لا يهتك ستره ، فيبقي يديه مثبتتين على طرف ثوبه وسرواله ، ولا يتقي بهما الضرب والاذى ، رايته وقد ادمى السفهاء جبهته وحشروه عند فرن ابو رجا ، لم يهب احد لنجدته ربما ان سطوة السفهاء كانت تمنع تدخل العقلاء. 
لا ادري يومها ماالذي حدث لصالح ، حيث ان ثقافة المرحلة كانت تقتضي ان يكون المجانين تسلية ، وعندما لا يوجد مجنون ، فإن سفهاء المراح كانوا قادرين على تحويل اي انسان على البركة الى مجنون رسمي ، لذلك كان اهل تلك القرى حريصين على ان لا يدخلوا ذلك المعبر فرادى ، ويترجل الرجال الكبار عن دوابهم حتى يصلوا خان ابو حمزة ، ولا يلتفتون الى التحرشات التي تواكبهم عند ذلك المعبر الصعب .
كنت عائدا في ذلك اليوم من جنين الى ام التوت ، وقد نسيت ما حدث ضحى ذلك اليوم لصالح . وعند وصولي الى اول محطة للراحة عند عماير النفاع ، سمعت نشيجا وشهيقا خلف السور ، كان صالح يقبع تحت شجرة ويتفقد خسائره عند المعبر ، ثياب ممزقة وخدوش في الجبهة والخدود ، ومع ذلك كان يمسك بحرص شديد بقايا رغيف ، خفت للوهلة الاولى عندما التقت عيناي بعينيه ، ولكنه لم يبد اي خوف فلم ير وجهي بين تلك الوجوه التي عذبته عند المعبر . كان هادئا انيسا ، في عينيه توسل العقلاء وشكوى المظلومين ، وكان يومها رفيقي حتى وصلنا الى سبعين ، يسير بمحاذاتي او ورائي حتى انفصلنا عند سبعين ، فذهب نحو تنين وتابعت سيري نحو وجهتي . 

د. احمد عرفات الضاوي