عندما يحزن السجين

في مثل هذا اليوم من أيلول عام 1970 , وربما في مثل هذه الساعة ، كانت رائحة أيلول تضج بالموت والبارود . منذ بدايته تفرق الناس وانقطعت أخبارهم عن أحبائهم ، ولا احد يعلم ماذا جرى للآخر

عندما يحزن السجين

في مثل هذا اليوم من أيلول عام 1970 , وربما في مثل هذه الساعة ، كانت رائحة أيلول تضج بالموت والبارود . منذ بدايته تفرق الناس وانقطعت أخبارهم عن أحبائهم ، ولا احد يعلم ماذا جرى للآخر ، كثيرون كانوا في هذه اللحظات تحت الركام ، وكثيرون ضاقت بجثثهم الشوارع والمستشفيات ، وكثيرون مثلي وجدوا انفسهم في المعتقلات ، كانت ساحات معسكر مشاة الزرقاء الاسفلتية تكتظ بالاجساد المتهالكة التي أنهكها الجوع ، كان النوم معاناة في برد الصحراء ، فانت لا تملك غير بطانية واحدة وعليك أن تتدبر امر الوسادة ، فالحذاء كان حلا ، ولكن ليست كل الاحذية سواء ، لذلك توسد الناس بعضهم والتصقت الأجساد تجنبا لبرد الصحراء . كان العالم كله بالنسبة لي بطانية اضافية ووجبة شهية ترمم ما تلاشى من اللحم ، وتعيد للعظم كسوته العادية . 

كنا محاطين بالاسلاك الشائكة يحرسنا جنود طيبون ، يحدثوننا برفق وهم يلتفتون حولهم . 

كانت رائحة الموت قد بدأت تتلاشى ، واعدادنا تتناقص يوما بعد يوم ، حتى كان يوم الثامن والعشرين من أيلول، حينما استيقظت قبل الشروق على صوت شهيق ونشيج ، كنت انام قريبا من الشريط الشائك ، لم استطع ان اتبين من الباكي حتى استعادت عيناي توازنها ، كان جنديا يحرسنا ، لم يخطر ببالي ان لهذا البكاء ولهذه الدموع سببا استثنائيا ، ترددت في سؤال الرجل عن دواعي حزنه ، كان يخفي وجهه بشماغه ، ويتناول طرفه ليمسح دموعه الساخنة ، تجرأت وسألته ، بتحفظ وأدب السجين مع السجان : عسى ما شر ؟ استعجل الرجل الإجابة ، لأنه يعلم ان التبليغ واجب وان المصاب جلل وان المشاركة واجبة وان الدموع مبررة ، قال بصوت مرتجف : مات جمال عبد الناصر ، لم استوعب الخبر ، نظرت حولي فالمعتقلون نيام ، ومن كان صاحيا لم يصله الخبر بعد ، لم استوعب الصدمة ، ولم يظهر مني رد فعل الا بعد ساعة ، عندما رايت شباب جيش التحرير الذين يشاركونا الوجع ، وهم يلقون بطاساتهم التي يستعملونها للطعام ، حتى تكومت في منتصف الساحة ، عادوا الى مكانهم المعزول عنا ، وامرهم قائدهم ان يصطفوا في طابور وبدأ يسرد لهم الاخبار المؤلمة ، عندها علم الجميع برحيل عبد الناصر واختلط الحزن الخاص والعام ، وبكينا وكأننا كنا ننتظر سببا لتفريغ شحنات الحزن . 

ما زلت احس باني كنت خائنا لاني لم أحزن بشكل ملائم ، فالسجين الجائع الذي أمضى اسابيع ينام على الاسفلت حتى تقرح جلده ، لا يحزن بشكل خالص من اجل الحدث . 

رحم الله جمال عبد الناصر ، فقد كان مبعث امل ، ونموذج نقاء لا يتكرر .

د. احمد عرفات الضاوي