أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، المأساة المستمرة. (٧)

إن العلاقة بين الفصائل الفلسطينية والحركة الشعبية الفلسطينية ما زالت تتفاعل ضمن جدلية بسيطة في شكلها ومعقدة في مضمونها. 

أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، المأساة المستمرة. (٧)
أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان

تختم هذه المقالة عرضاً مبسطاً لأوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان شمل علاقاتهم بالدولة المضيفة والأونروا ومنظمة التحرير الفلسطينية والفصائل. لقراءة الجزء السادس إضغط هنا. 

تميز المجتمع الفلسطيني منذ اللجوء إلى لبنان عام ١٩٤٨ بالتماسك الإجتماعي والتكافل في ظل ظروف صعبة سببها غياب التشريع في القانون اللبناني في ما يخص اللاجئين والتعامل معهم قمعياً من خلال أجهزة أمنية، يضاف إلى ذلك ضعف المساعدات الإنسانية التي قدمتها الأونروا وصعوبة تنقل الفلسطينيين بين الدول التي تتوفر فيها فرص العمل.

في ظل تلك الظروف بذل الفلسطينيون جهوداً مميزة على جبهات متعددة مساهمين في بناء الإقتصاد اللبناني بأموالهم وخبراتهم كما في النهضة العلمية والثقافية والفنية وأيضاً في تنمية الوعي الفكري والسياسي والمجتمعي.

وقد كانت التقاليد العشائرية والأسرية هي أساس التماسك الإجتماعي للاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان وأساساً لحركته الفكرية والسياسية، ومع مرور الزمن وإرتفاع نسبة الإختلاط بين اللاجئين حلت المخيمات كوحدة مجتمعية مكان العلاقات الأسرية والعشائرية دون أن يؤثر ذلك على تمسك الفلسطيني بأصوله وعاداته وتقاليده المتوارثة عبر الأجيال، فما زالت أحياء المخيمات تحمل اسماء القرى الفلسطينية التي ينحدر منها اللاجئون. 

أدت التفاعلات في مخيمات لبنان إلى ظهور تشكيلات مجتمعية متنوعة بدأت تتبلور بعد إجتياح عام ١٩٨٢ مستفيدة من المعارف الفكرية المكتسبة خلال فترة المد الثوري. وتميزت فترة ثمانينيات القرن الماضي بتطور الأندية الرياضية بشكلها المستقل وظهور روابط القرى الفلسطينية كأطر تساهم في سد الثغرات الناتجة عن تدمير البنى التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية في إجتياح عام ١٩٨٢.

ومع أن تلك التجارب قد تعرضت لمحاولات التدجين والإقصاء خصوصاً من قبل الفصائل الفلسطينية التي كانت تخشى من زوال نفوذها على المجتمع الفلسطيني، مع ذلك لم تكف الحركة المجتمعية الفلسطينية عن تطوير ذاتها بأشكال وأساليب مبتدعة ومطورة.

وفي تسعينيات القرن الماضي برزت الروابط المهنية التي أسسها المهندسون ثم الأطباء والإداريون وشكلت في حينها جبهة مجتمعية متماسكة وقوية بما لديها من خبرات  ومعارف. تشكيل هذه الروابط أيقظ بعض مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية النقابية من سباتها العميق ليس لإعادة بناء الجسد النقابي الفلسطيني وإنما خوفاً من إمتداد التجربة والوصول بها إلى مراكز القيادة الفلسطينية وبالتالي إقصاء القيادة التي صعدت سابقاً نتيجة الفراغ والخلل الناتج عن إجتياح لبنان عام ١٩٨٢. وتلك مسألة مازالت مستمرة حيث تحول الأمر إلى صراع داخلي بين قيادة جل اهتمامها الحفاظ على مصالحها في مواجهة مع حركة شعبية تسعى إلى ترميم منظمة التحرير الفلسطينية والعودة بها إلى دائرة الفعل العالمي.

لقد تمكنت القيادة المستحوذة على إمكانيات الشعب الفلسطيني من إحتواء ظاهرة الروابط المهنية بالكامل وإجهاض نشاطها من خلال استقطاب الباحثين عن مصالح أو من خلال التضليل السياسي للفئة الملتزمة بتوجهات تنظيمية محددة.

إن هذه الأحداث على بساطة سردها قد أدت إلى إحداث شرخ عميق بين القوى المجتمعية والقيادة التي إعتمدت في تأطير جمهورها على الإسترزاق المادي واستغلال الظروف الصعبة التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني في لبنان. هذا الشرخ يتكرس اليوم بشكليه الأفقي والعامودي، وليس فقط في لبنان فثمة تشابه في كل ساحات العمل الفلسطيني.

وكل ذلك ليس منفصلاً عن طبيعة الصراع في الشرق الأوسط ودائرة المصالح الإقليمية والدولية، فالحصار واقع بأشكال متعددة على القوى الوطنية في كل الشرق الأوسط، وفي الحلقة الأوسع نرى دولاً بأكملها تحت الحصار، وفي حلقة أقل إتساعاً نرى القيادات الوطنية في سجون الأنظمة التي تخشى من إستغناء المستعمر عنها، وفي الحلقة الأضيق نرى إقصاء القوى المجتمعية من قبل القيادة التي تخشى من زوال نفوذها وبالتالي زوال مصالحها.

في عام ٢٠٠٧ وخلال الحرب بين الجيش اللبناني ومجموعات دينية مسلحة تم إدخالها إلى مخيم نهرالبارد، ونتيجة لإدراك القوى المجتمعية لعقم قياداتها السياسية وعجز الأونروا والدولة اللبنانية عن معالجة آثار الحرب وخوفاً من ضياع المخيم وزواله وتشريد سكانه، لذلك كله وبمجهود ذاتي تم تشكيل هيئة أهلية لإعادة إعمار مخيم نهرالبارد شارك في تأسيسها عدد من المهندسين والإداريين ونشطاء المجتمع.

تمكنت الهيئة الأهلية من وضع الأسس وصياغة مشروع لإعادة إعمار المخيم وشكلت محوراً للتعاون بين الدولة والأونروا ومنظمة التحرير وأهالي المخيم أثمر في إقرار إعادة إعمار المخيم في مؤتمر للمانحين عقد في فيينا عام ٢٠٠٨. وبرزت الهيئة الأهلية كقوة مجتمعية فعالة قادرة على التأثير والحضور.

ومرة إخرى برز تخوف القيادة الفلسطينية من ظاهرة إجتماعية قابلة للتمدد وتهديد المصالح الضيقة لذوي النفوذ، وتظافرت الجهود للقضاء على الهيئة... ولم يكتمل بناء المخيم حتى اليوم بسبب الفساد وغياب الرقابة.

تميزت الهيئة الأهلية بالإعتماد على الدراسات والتخطيط للمستقبل وبذلت كل الجهود الممكنة لتلافي الأزمات التي يمكن أن تنتج مستقبلاً عن واقع المخيم بعد الحرب، وقبل أن تضغط الفصائل لحل الهيئة الأهلية كان العمل جارياً على إخراج المخيم من حالة الحكم العسكري وتفادي إنفجار مجتمعي محتمل.

وبعد سنتين من حل الهيئة الأهلية ونتيجة للإهمال المتواصل وغياب القيادة الفلسطينية عن أداء واجباتها، وفي صيف عام ٢٠١٢ إنفجر المجتمع الفلسطيني في مخيم نهر البارد في وجه القوى العسكرية اللبنانية ودارت مواجهات عنيفة داخل المخيم وقف فيها الشبان الفلسطينيون بصدور عارية أمام مجنزرات الجيش اللبناني، وذهب ضحية الأحداث شهيدين من شبان المخيم. هذه الأحداث كان من الممكن تفادي الوصول إليها بالعمل المسبق لإزالة أسبابها.

وفي نفس الوقت فإن غياب الحلول للقضايا العالقة قد وضع القوى العسكرية اللبنانية في غير مكانها وفي مواجهة لا تريدها مع مجتمع مدني تولت السهر على حمايته. 

لقد أظهرت هذه الأحداث مدى أهمية وجود مبادرات مجتمعية لسد الفراغ الناجم عن قصور أداء الأطراف المعنية بمعالجة قضايا اللاجئين، كما أظهرت أهمية وجود الأطر المتخصصة والبعيدة عن الممارسة السياسية وزواريب الفساد. 

إستمرت الإحتجاجات داخل المخيم وبمؤازرة مخيمات لبنان حيث قامت احتجاجات قوية ومؤثرة في مخيم عين الحلوة أيضاً لمساندة مخيم نهرالبارد ولم تتوقف إلا بإلغاء التصاريح العسكرية المفروضة على سكان المخيم وتخفيف الإجراءات على الحواجز العسكرية التي يتم الدخول منها إلى المخيم.

أفرزت أحداث عام ٢٠١٢ حركة شعبية منظمة تحت إسم الحراك الشعبي في مخيم نهرالبارد الذي بدوره تحول إلى ظاهرة مجتمعية قوية الحضور تعمل على معالجة مختلف القضايا التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني في لبنان وباتت المخيمات الفلسطينية في لبنان تتحرك على وقع حراكاتها الشعبية في سلسلة متواصلة من الاحتجاجات على أداء كل الجهات المعنية بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين والتي تشمل بالإضافة إلى الدولة اللبنانية كل من الأونروا ومنظمة التحرير الفلسطينية والفصائل ولجانها الشعبية.

وفي مخيم عين الحلوة، وهو الأكبر بين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، برزت لجان الأحياء (القواطع) كأطر لسد ما يمكن سده من الثغرات الناجمة عن تقصير المرجعيات في معالجة القضايا اليومية التي يعاني منها سكان المخيم. 

لعبت الحراكات الشعبية الدور الأهم عام ٢٠١٩ في تحريك الشارع الفلسطيني في لبنان احتجاجاً على إجراءات وزير العمل اللبناني كميل أبوسليمان ضد العمال الفلسطينيين، وقد شهد مخيم نهرالبارد حركة احتجاجية غير مسبوقة في التاريخ الفلسطيني حيث خرج المخيم بأكمله رجالاً ونساءً في مسيرة إحتجاجية جابت شوارع المخيم.

وفي نفس الوقت شهد مخيم عين الحلوة احتجاجات ذات أبعاد مختلفة، فمن جهة تواجهت الحركة الشعبية مع الفصائل الفلسطينية التي كانت تعمل على إخماد الإحتجاج، ومن جهة أخرى أظهرت وبوضوخ قوة العزم والارادة في التصدي للمظالم التي يتعرض لها اللاجئ الفلسطيني في لبنان. 

لم يمثل إحتجاح المخيمات رداً على إجراءات وزير العمل اللبناني فحسب، بل تعدى ذلك للرد على القيادات الفلسطينية التي حاولت أن تهادن وتساوم على حقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكان من نتائج ذلك إقالة رئيس إتحاد عمال فلسطين على الفور بعد أن قبل رأس وزير العمل خلال جلسة للحوار معه. وأعتُبِر تصرف رئيس إتحاد عمال فلسطين طعنة في ظهر المحتجين وتملقاً للسلطة اللبنانية. 

وايضاً أدى الاحتجاج الشعبي إلى إبعاد مسؤول الملف الفلسطيني في لبنان، والمقيم في رام الله، عن دائرة القرار، وهو المسؤول الذي إجتمع مع قائد حزب القوات الذي ينتمي إليه وزير العمل قبل إسبوعين فقط من بدء الإجراءات بحق العمال الفلسطينيين. 

والتجارب الأخيرة قد أظهرت مدى قدرة المجتمع الفلسطيني على التاثير في الجبهتين الخارجية والداخلية، فقد وجدت الفصائل الفلسطينية نفسها مرغمة على تجاوز خلافاتها وانقساماتها والإنضمام إلى حركة شعبية موحدة في مواجهة المظالم التي يتعرض لها اللاجئ الفلسطيني في لبنان. 

إن العلاقة بين الفصائل الفلسطينية والحركة الشعبية الفلسطينية ما زالت تتفاعل ضمن جدلية بسيطة في شكلها ومعقدة في مضمونها. 

وإن الهدوء الحالي في صفوف الحركة الشعبية تعود أسبابه كما ذكرنا سابقاً إلى الأزمة الراهنة التي يمر بها لبنان وإلى تفشي وباء كورونا، وتشكل هذه الفترة فرصة للمجتمع الفلسطيني في لبنان لإعادة التقييم ومن ثم رسم معالم لمرحلة قادمة ستحتاج لفهم جديد وأدوات فعل جديدة. 

إن الحركة الشعبية الفلسطينية باتت على مستوى من النضج والقدرة على التأثير، ومازال فعلها متصاعداً ومتواصلاً وأدوات عملها تتطور مع زيادة التجارب. 

حسام شعبان