قراءة في المشهد السياسي والاعلامي لاغتيال الاعلامية شيرين ابو عاقلة .
تابعت بقلبي وعقلي كل التغطيات الاعلامية والتصريحات السياسية المتعلقة باغتيال الصحفية شيرين ابو عاقلة ، كنت أحاول ان أرى ماوراء المشهد ، وما بين سطور الاعلام

تابعت بقلبي وعقلي كل التغطيات الاعلامية والتصريحات السياسية المتعلقة باغتيال الصحفية شيرين ابو عاقلة ، كنت أحاول ان أرى ماوراء المشهد ، وما بين سطور الاعلام ، فتوصلت الى نتيجة واحدة ، ان كل ما صدر من تصريحات ومعظم التغطيات الاعلامية كانت مركبا وطيئا للاستعراض ، او تسجيل نقاط ومواقف ، الجهة الوحيدة الصادقة في هذا المشهد ، هي قبضات المشيعين وهتافاتهم ، وأصدق الدموع هي دموع الاطفال والنساء على شيرين الراحلة .
شيرين حالة خاصة ، ليس لانها شيرين ، بل لانها على مدار اكثر من عقدين تطل علينا لتخبرنا بصدق ما يحدث في فلسطين ، كان لها حضور انساني وفي ملامحها وصوتها صدق ، جعل جميع المتابعين ممن تعنيهم فلسطين يفتحون لها مساحة خاصة في قلوبهم ، وراها الناس في قرى فلسطين ومخيماتها وهي تجوع وتعطش ، نامت في بيوتهم وشاركتهم موائدهم المتواضعة . وبحثت معهم عن قتلاهم بين الانقاض ، وشاهدت دماء الاطفال والنساء وهي تتدفق ساخنة من الاجساد ، كما شاهدت البنادق وزخات الرصاص وهي تعصف بالاجساد والبيوت . وربما بكت مع الباكين وحزنت مع المحزونين ، وهذه المواقف والمشاعر لا يمكن نقلها عبر الكاميرا ، لذلك عرفها اهل فلسطين بشكل مختلف وبعيون مختلفة عن عيون وقلوب القابعين امام الشاشات .
هذه الخصوصية لشيرين هي من أعلى شانها وافرد لها هذه المساحة من الحب في القلوب . فكان الحزن عليها استثنائيا .
رصدت كغيري المشهد الاعلامي وسجلت الملاحظات التالية :
قناة الجزيرة تعاملت مع الحدث وكان شيرين فقط عضو في أسرة الجزيرة ، ولم تربط في اي نشرة او تحليل او تعليق بين ماحدث لشيرين وبين القضية الأكبر وهي قضية الاحتلال ، فشخصنت الواقعة ، وسجلت مجموعة من الأهداف للجزيرة ، حيث بدت شيرين وكانها اعلامية للجزيرة بمعزل عن وطنها وقضيتها ، فتحولت الشهيدة الى مادة دعائية للجزيرة اكثر منها شهيدة بنت قضية ، لها جذور وانتماء ، هما سبب صمودها وفقدان حياتها ، وليس الجزيرة ، لقد أضافت شيرين الى أخلاقيات المهنة إضافات لا تتاح لأي اعلامي ، وهي انها بنت هذا التراب ، وبنت هذا الشعب المظلوم . وليست ابنة الجزيرة فحسب .
اما الفضائيات الاخرى والمنصات الاعلامية ، فمرت على خبر استشهادها كخبر عادي ، دون أن تلقي الضوء على ملابسات وظروف ودلالات اغتيالها ، وحدها الميادين غطت الحدث انطلاقا من بعد أعمق يتعلق بالاحتلال ، وان الاغتيال هو امتداد لممارسة طويلة من فجور الاحتلال وان شيرين هي واحدة من الاف الشهداء ، وان مسلسل القمع والقتل ما يزال مستمرا حتى لحظة تشييع الجثمان . بمعنى ان شيرين هي بنت قضيتها وليست بنت الجزيرة فقط .
تصريحات راس هرم السلطة ، استدعت الغثيان ، فما كاد لسانه ينزلق لتوصيف الجيش الاسرائلي بجيش الاحتلال ، حتى استدرك وألغى ما كاد يقوله ، فوصفه بالجيش الاسرائيلي ، فلم يطاوعه قلبه ان يصفه بجيش الاحتلال ، على الرغم من ان لسانه قال نصف التوصيف ثم استخدم الفرامل على لسانه .
دول ( الاعتدال) او سمها ماشئت ، لم يصدر منها اي تعليق على المشهد الدموي في فلسطين عموما ، ولا على مشهد اغتيال شيرين ، وكانت فرصة سانحة لهم ليقولوا كلمة حق . أسوة بالدبلوماسية الغربية ، على الاقل . بل كان فرصة لينفوا عن انفسهم سمة الاستلاب المطلق . في لحظة انسانية لن يلومهم عليها احد .
جامعة الدول العربية لم تتوقف عند الواقعة او عند أي واقعة مصاحبة لتقول كلمة ، وكان الامر مسوغا ولو من الجانب الإنساني.
كل التصريحات الدبلوماسية من برلمانيين غريبين ، تحدثت عن واقعة الاغتيال متجاهلة ما يحدث من احتلال وقتل يومي وفصل عنصري وتجويع وهدم ، وكل التصريحات جاءت في سياق واقعة كأنها محلية ، وجريمة عادية ارتكبها شخص غامض . مع ان الأيام ستكشف ان مرتكب هذه الحماقة كان يحمل قائمة مهام من أعلى المستويات .
كان مشهد اعتراض الجنازة وقمع حاملي نعش الشهيدة ، يدل على فجور وحمق وغباء ، وكان امام هذا الاحتلال فرصة ان يسجل نقطة لصالحه لو تغاضى مؤقتا امام حرمة الموت ، ولكن الفاجر لا يهمه ما يقال عنه ، فقد تجاوز كل المراحل الانسانية ، وبخاصة في غياب المحاسبة .
شيرين رحلت مقتولة من اجل وطنها وقضيتها ، ودفنت في القدس مثل اجدادها ، والشعب الفلسطيني وحده من ذرف دموعا صادقة عليها ، وبقية الدموع كاذبة او منافقة ، إذا كان راس الهرم قد منحها وساما ، فالشعب قد افسح لها في القلوب والشوارع والازقة والذاكرة الجمعية مساحة تتسع لآلاف النصب والاوسمة .
شيرين كان اسما عاديا ، ولكنه سيصبح له دلالات اخرى لا يعرفها غير الشرفاء والمناضلين .
د. احمد عرفات الضاوي