القنائي - قصة قصيرة

أثناء عملي بمحافظة قنا، كنت أتوجه كل بضعة أيام لافضي بنفسي عند ضريح "السيد" هكذا يطلقون عليه في قنا، يتوسط قلب محافظة قنا مسجده الضخم وفي قلب المسجد يقبع منتظرً

القنائي - قصة قصيرة
القنائي - قصة قصيرة


أثناء عملي بمحافظة قنا، كنت أتوجه كل بضعة أيام لافضي بنفسي عند ضريح "السيد" هكذا يطلقون عليه في قنا، يتوسط قلب محافظة قنا مسجده الضخم وفي قلب المسجد يقبع منتظرًا نعيمه الأبدي، مانحا الجود والاحسان للمحبين والتائهين والمتعبين، هكذا كان في مخيلتي وقتها يقبع في حفرة من نور يسمع ويرى ويلمس كل زواره، ويطير بالليل والناس نيام يلهمهم الرؤى والأحلام !
عادة ما يتجمع الدراويش والمجاذيب والمريدين يستمدون منه نور على نور على نور، حتى غير المجاذيب تراهم يدلفون الى الضريح متدثرين بعبائاتهم الطويلة وشيلانهم القاتمة وبشرتهم السمراء وانوفهم العريضة، وكان "أبا ضوء" أهم مجاذيب السيد والمتصلين ببحر علومه وكنوز أسراره، وملكوته السماوي الساكن جوف الأرض، تارة تجده ساجدا لا يقوم ولولا أنفاسه المتلاحقة ونحيبه المرتفع لظننته مات، وتارة تراه وقد أراح ظهره على نحاس الضريح حيث يسكن السر المكنون وأفضى برأسه الي السماء وانفغر فاه وتعلقت عيناه بالملكوت سهم الوصل بين السماء والارض ومال رأسه الضخم الثقيل الي يساره قليلا وانهال الضوء من طُقة مزججة صغيرة أسفل القبة ليغمر وجهه، وفكه الأسفل يكاد يتحرك ونشيج مكتوب يغادر صدره لا تكاد تسمعه وقد اغرورقت عيناه بالدموع وارتخى ساعداه الي جواره وتهدل كتفاه، ويمر وقت كثير قبل ان يستفيق من هذه الأخذة، ويقول العامة والمريدين بأنه في لحظات الوجد هذه يجوب العالم ينقذ الناس ويشفي المرضى ويغوث الملهوفين، وهو قابع في مكانه لم يتحرك !
اعتدت رؤية أبا ضوء ولكنني لم أمله، كنت كل مرة أراه جديدا فريدا منمقاً، رغم شعره وذقنه وشاربه الذين تساوي طولهم واتخذت كل مجموعة من الشعر اتجاهها الخاص، وتشكل شعر رأسه فصار خواتم ودبل، تجمعهم وساخات سوداء سميكة، وثيابه الملطخة بالشحوم والخرق التي تكشف بقع من ظهره وبطنه المتهدل، وسيقانه وأقدامه التي لا تكاد ترى جلدها من طبقات الوسخ المتراكمة عبر السنين، وبعض حبات عُقد وسبحة قديمة تحيط عنقه، وتلمع تحت الضوء القادم من الطُقة الصغيرة، يقال بأنه كان مهندسا مدنيا من أشراف قنا تحول ذات يوم للبحث في امور السحر والكرامات حتى أهمل عمله وأهله ومن ثم نفسه، فوهبها لكنز الاسرار وقطب العارفين والمريدين، ذات صباح باكر دلفت الى الضريح ﻷجد رجلا يرتدي بدلة عصرية يجثوا علي ركبتيه ساجدا وممسكا بكف قدم أبا الضوء منهالا عليها بالتقبيل واللعق وهو ينتحب بصوت مرتفع، ثم ما يلبث أن يتحول لقدمه الاخرى فيلهبها تقبيلا وأحضانا ما جعلني أقف مشدوها ثم أذرف بعض الدموع ثم أضحك بصوت مكتوم !
ولكنني واظبت على الحضور للمشهد القنائي كلما تدليت الى بندر قنا ولا انسى ان اتلقف بعض حبات النبق من جوار ضريح السيد عبد الله القرشي، وأبتاع بعض البخور واللبان الذكر والسكر النبات وأنصرف ..
وذات صباح كنت أهم الخطى للغرف من الساحة القنائية وافضاء الأسرار لصاحب الأسرار واذا بي افاجئ بالساحة المكرمة وقد تحولت الى ثكنة عسكرية بوليسية محكمة، وبعض النسوة يفقعن بالصوت الحياني، وبعد محاولات مستميتة دلفت من البوابة لأستطلع الأمر واشرئب عنقي من بين أعناقهم الطويلة ﻷجده هناك متكوما في خرقة من الدمور تجمع عليها الذباب وكستها بقع من الدم وفاحت منها رائحة غير معقولة، وبالكاد عرفت أنه هو أبا الضوء، لقد خطفه سارقي الأعضاء البشرية وجردوه من أمعاءه ومن عينيه ومخه
وما تبقى منه تناتشته فيما بينها الكلاب الضالة والذباب والنمل، كان يجب أن اصلي ركعتين كالعادة ﻷتخلص حتى من خفقان قلبي وشعور الارتياع والاشمئزاز والهلع، لذا فقد توضيت ودخلت من باب المسجد فتذكرت حذائي الذي ابتعته بالأمس فصليت الركعتين وخرجت ﻷجد أن أحدهم قد سرقه، وأشفقت وقتها على أبا الضوء،  وانقهرت على حذائي الذي لم أهنئ به، وخرجت حافيا على الأسفلت الملتهب ﻷبتاع حذاء جديد من السوق، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي أرى فيها السيد القنائي حتى انني قد سببت اليوم الذي عرفته فيه.


محمد جلهوم
3 فبراير 2021