آخر أيام المغطاس
المغطاس لمن لا يعرفه من اصدقائي في المغرب؛ هو إناء فخاري ربما يستوعب لترا من الماء
المغطاس لمن لا يعرفه من اصدقائي في المغرب؛ هو إناء فخاري ربما يستوعب لترا من الماء ليس اكثر يتسع عند الفوهة ، ويضيق تدريجيا حتى القاعدة . قاعدته ضيقة بحيث يصعب ثباته إلا إذا اتكأ على اشقائه في الجونة ، اما الجونة فهي مسألة اخرى .
كان المغطاس رفيق بائعة اللبن في الزمن الجميل ، وله اخت اكبر منه حجما وسعة اسمها البقلولة ، وهما اهم مصطلحين عند بائعة اللبن ، لانها تجرد حساباتها آخر النهار بناء على عددها ولا تتقن من العمليات الحسابية غير هذا العدد مضروبا بشلن للمغطاس ، وعشرة قروش للبقلولة .
ربما لا يعرف الكثيرون من أبناء جيلي ان بائعة اللبن لا تملك هذا اللبن فهي وسيط بين اصحاب الحلال والزبائن ، تاخذ حصتها مقابل البيع ، فاصحاب الحلال لا يقبلون فكرة بيع لبنهم بل وحتى تصنيعه وإليكم الحكاية :
في القرية راع واحد للغنم والمالكون لها متعددون ، ابتكر الناس طريقة مريحة ومجزية لجميع الاطراف اسمها الدور ، فجميع حليب القرية يصب في قدر كبير لمن لديه الدور ، ويؤدي كل واحد واجبه اتجاه الشركاء بامانة ، وللراعي يوم معين في هذا الأسبوع. ولبائعة اللبن يوم آخر يصب جميع حليب اهل القرية في قدرها .
فبائعة اللبن لا تملك عنزة واحدة ولكنها أدوار متكاملة يؤديها الجميع بشكل تعاوني وبمسؤوليات محددة ، لا يخرج عنها احد لارتباط ذلك بمصالحه الاقتصادية .
دور بائعة اللبن ان تاخذ حليب من له الدور وتروبه وتصبه في المغاطيس والبقاليل ، وترصها بعناية في الجونة وتلقي عليها بطانية وفوق البطانية جاعد ، فهي تعرف الطقوس والمعايير ، وفي الصباح عند الفجر تحمل جونتها وتتجه الى المدينة ، وقبل الظهر بقليل تباع البضاعة باكملها ، وتعود المغاطيس الفارغة الى بائعة اللبن ، وغالبا ماكان الزبائن يعيدونها نظيفة ، وفي حال تعذر ذلك فإن بائعة اللبن تتدحرج نحو النذر وتغسل المغاطيس قبل عودتها .
فإذا كان اللبن وفق الدور لفلان فانها تتقاضى قرشا على المغطاس وقرطة على البقلولة ، وعندما يكون الدور لها وفق الاتفاق فلها الغلة جميعها .
لم تكن بائعة اللبن مجرد اجيرة ، كان الجميع يتوتر من غضبها فلا يجرؤ احد ان ينقلب عليها ، فمن غير دورها تكسد البضاعة ، ولذلك عندما كانت تمرض او تتعطل لاي سبب ، تقوم إحدى بناتها بالمهمة ، وكانت بائعة اللبن حريصة على استمرارية التسويق والالتزام بالاتفاق غير المكتوب ، الوحيد الذي كان يشذ عن هذه القاعدة هو الراعي ، فتقوم زوجته او ابنته بهذه المهمة لتوفير القروش القليلة التي تدفع لبائعة اللبن . كان المغطاس سيد المصطلحات ، وكانت البقلولة طموح الاغنياء لانها أغلى ثمنا . ولكن للبضاعتين زبائنهما ، لذلك لم يعرف أهالي جنين وقراها الجميد في طبيخهم ، كانوا يطبخون باللبن الطازج في مختلف المواسم ، واللبن رفيق الفول الاخضر ، وهو اساس اللبنية ، وهو المنسف مع اختلاف في طقوس طبخه واعداده وتقديمه ، وعندما يتعذر طبخه يقدم مع زيت الزيتون الذي يسبح فوق سطحه ، ولا بد من رأس بصل ، وفي المواسم مع البصل الاخضر . لم يعد للبن طعم بعد اختفاء المغطاس وبائعة اللبن .كان زمنا جميلا وللاشياء طعم شهي مختلف . تصبحون على لبن شوالي .
د. احمد عرفات الضاوي