الرايات الروسية في ألفاظ سومر وآشور وعقائد الشرق الأوسط، ومنهج إستقصائي لفقه اللغات (٢).
اللون الاصفر هو لون راية الخلافة العباسية، وهو لون القبيلة الذهبية التي تبعت الخلافة، واللون الأخضر هو لون الدولة العثمانية وشعوب القوقاز. نستعرض هنا كيف تكونت تسمية تلك الألوان باللغة الروسية.

في الجزء الأول مهدنا لدراسة تسميات الألوان الروسية وحددنا إطار البحث ومصطلحاته مع لمحة موجزة عن الحقبات التاريخية المستهدفة بالدراسة. لقراءة الجزء الأول إضغط هنا.
إن الألفاظ قد تغيرت عبر العصور من حيث طريقة نطقها كما من حيث المعنى أو المفهوم المرتبط بها، وهذا التغيير لم يكن عشوائياً بل جاء عبر المنطق محكوماً بتطور الفكر البشري وحاجات الإنسان المتغيرة على الدوام. ولفهم ألفاظ القدماء لا بد من اقتصاص أثرها عبر العصور المختلفة وفهم العوامل المؤثرة فيها. ولا بأس من إستخدام المفاهيم المعاصرة للألفاظ للمرور عبرها نحو المفاهيم الأصيلة.
سوف نضطر هنا لاستخدام كلمات مثل إله وقديس، ولكن يجب نضع في بالنا أن الألفاظ القديمة لم تكن تحمل هذه المعاني بل البست بها من قبل المترجمين على مر العصور.
عن اللون الأصفر:
باب الرحمة هو أحد أبواب المسجد الأقصى وهو من الأبواب المغلقة في أيامنا. وله تسمية ثانية هي "باب الذهبي" تنتشر بترجماتها المختلفة عبر اللغات والبلدان، ويسمون بها بواباتهم تيمناً بمدينة القدس. في الروسية يقولون "زالاتيِّه فاروتا" (Золотые ворота) بمعنى البوابة الذهبية، وسوف نستخدم هذه الكلمة في بحثنا ادناه.
يقال أن السيد المسيح عليه السلام دخل من هذا الباب وكان إسمه باب "الجميل"، يرى فيكتور سحاب في دراسته لأبواب القدس أن إختلاط التسمية حصل باليونانية بسبب تشابه لفظ "horaios" (الجميل) مع لفظ "awreas" (الذهبي). وهذا يذكرنا باختلاط اللون الأحمر مع صفة "الجميل" بالروسية وبالعربية (حميراء تعني جميلة). ولا أراه اختلاطاً باللفظ وإنما هو في سياق تطور اللغات كما سيظهر لاحقاً.
وربما يرجع الاعتقاد المسيحي بدخول المسيح عليه السلام من هذا الباب إلى سفر حزقيال وظهور مجد الرب عند الباب الشرقي، ومجد الرب عندهم هو السيد المسيح أو الإبن الذي يتجسد فيه الإله.
ويقال أن العثمانيون اغلقوا هذا الباب بسبب خرافة تقول بأن الفرنجة سيعودون ويحتلون مدينة القدس عن طريق هذا الباب. وهذه رواية تبدو غريبة إذا ما نظرنا لما قد ورد في سفر حزقيال اصحاح ٤٤: "1ثُمَّ أَرْجَعَنِي إِلَى طَرِيقِ بَابِ الْمَقْدِسِ الْخَارِجِيِّ الْمُتَّجِهِ لِلْمَشْرِقِ، وَهُوَ مُغْلَقٌ. 2فَقَالَ لِيَ الرَّبُّ: «هذَا الْبَابُ يَكُونُ مُغْلَقًا، لاَ يُفْتَحُ وَلاَ يَدْخُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ دَخَلَ مِنْهُ فَيَكُونُ مُغْلَقًا."... أرى أن من أغلق الباب إنما أراد تحقيق هذه النبوءة بالذات.
لن نناقش هنا الجانب المتعلق بالاعتقاد الديني بهدف التركيز على دراسة الألوان كما ذكرنا آنفاً. وما يهمنا هنا من السرد هو إظهار مدى قدم تاريخ الألفاظ والمعتقدات التي ندرسها.
في القرن الحادي عشر ميلادي، في زمن المملكة القديمة، "كييفسكايا روس"، اطلق إسم "البوابة الذهبية" على البوابة الرئيسية لمدينة كييف، كما اطلق على عدد من بوابات القسطنطينية منذ القرن الرابع ميلادي، وانتشرت التسمية في الكثير من المناطق الأخرى في أرجاء العالم قديماً وحديثاً وبلغات كثيرة، وعلى الأغلب لأسباب دينية، مع ان الأصل في التسمية ليس كذلك.
ننتقل إلى خيط آخر، فالقبيلة الذهبية التي حكمت السهوب الروسية لها تسميات عديدة وتستحق أن تنفرد وحدها ببحث لغوي إستقصائي إن لم نقل بحوث، نكتفي هنا باشارات تخدم تتبع اللون دون غيره ونترك ما عداها لدراسة أخرى.
سمي جناح القبيلة الذهبية الأيمن بالأبيض وجناحها الأيسر بالازرق، والتسميات الثلاث جائت متأخرة في التاريخ المدون ويجمع الباحثون أن القبيلة الذهبية لم تسمي نفسها بتلك الأسماء.
أما اسماءها الأقدم والمعاصرة لها فتشمل "أولوس جوتشي" (أو جوجي) و "أولوس قفجاق" و "دشت قفجاك" و "خانية القفجاق" و "آلتون أورطة" (أو أوردا) وغيرها.
فرضيتنا تقول أن أسماء القبيلة الذهبية المتأخرة مشتقة من أسماء أكثر قدماً بلفظها فقط أما معاني الألوان فقد تم اسقاطها في وقت متأخر لأسباب سيتوالى شرحها بالتدريج خلال هذه المقالة. سنكتفي هنا بالاستعانة بتسمية" آلتون أورطة" لأنها تترجم دون جهد من اللغات التركية بمعنى "القبيلة الذهبية"، ونعتبرها من تسميات الوسيطة زمنياً. وللإختصار نكتفي بالإشارة إلى شبه لفظ "آلتون" (الذهبي، من التركية والمنغولية) ولفظ "أولوس" الذي يترجم بمعنى القبيلة.
بتغيير اللهجة فقط يمكن تحوير "آلتاي" (ذهبي) إلى "يالتاي" (نحن لا ندري كيف كان لفظها في تلك الأزمان على وجه الدقة، ذلك لأن الآثار المكتوبة تنقل رسم الكلمة وليس لفظها، هذا عدا عن النقل بين لغة وأخرى)، وبتغيير لفظ الياء تصبح "جالتاج" (جال-تاج). اي التاج العالي، وهي تسمية جبال آلتاي وتشبه من حيث استعارة الإسم تسمية "جبل الشيخ" في الشام. معنى الذهب دخل إلى الكلمة في وقت لاحق.
إن ربط ما يسمى لغات "هندو-أوروبية" بالعربية والصينية سنتوصل إليه بالتدرج والغاية هي أن نثبت بأن أصل اللغات واحد من خلال تتبع آثار اللفظ والمعنى في مسالك التاريخ. خلال ذلك يتوجب علينا أن نتحرر شيئاً فشيئاً من هيمنة المنهج الغربي في دراسة اللغات على عقولنا، وهذا يشمل ما تعلمناه في مدارسنا "الوطنية"، وتلك مهمة شاقة تهون أمام الصابرين.
وبالعودة إلى القبيلة الذهبية و البوابة الذهبية، فلم تكن كلمة "золотой" (زالاتوي بالروسية) تعني "ذهبي"، كما لم تكن كلمة "желтый" (جولتيْ بالروسية) تعني "أصفر" بل حملتا هذا المعنى في زمن محدد وبسبب اللون الأصفر لرايات تلك البلاد. والكلمة الجذر للكلمتين هي "жал" (جال) والحرف الأول منها يمكن أن يتحول بتصريف الكلمة إلى "з" (ز). وفي زماننا الحاضر يحمل هذا الجذر بالروسية معاني الأسف والشكوى والندم كما الرجاء والتفخيم وهي معاني ترتبط بالتوجه إلى السماء بحسب العقائد الدينية (الشكوى للإله، أو للملك الذي يمثل الإله).
وكلمة "جال" باللغة السومرية استعملت بمعنى العالي أو السامي (السماء) أو الملك (لوجال) بمعنى الجليل أو صاحب الجلالة، ومنها بالعربية كلمة جلّ وجليل وجلالة.
إن كلمة "yallow" (يالو) بالإنكليزية ومعناها "أصفر" هي من مصدر "يال" الذي يعود إلى "جال" عن طريق إبدال الياء بالجيم. وهذا يذكرنا ب "جال-تاي" من التسميات التركية.
وكلمة "gold" (غولد) بالإنجليزية ومعناها "الذهب" تعود إلى جذر "غال" ومنه إلى "جال".
وهكذا فللتعبير عن اللون الأصفر كان الروس يقولون اللون الملكي (желтый цвет) واللون الملكي هو لون راية الملك. وكانوا يسمون القبيلة الحاكمة بالقبيلة الملكية (Золотая Орда).
بترجمات اليوم تعبير اللون الملكي اصبح يفهم منه اللون الأصفر، وتعبير القبيلة الملكية أصبح يفهم منه القبيلة الذهبية. ولم يثبت أن القبيلة الذهبية كانت تطلق على نفسها إسم "القبيلة الذهبية"، بل أن المؤرخين الروس هم من أطلقه ثم التبس عليهم المعنى فتحول إلى الذهبية بدل الصفراء والملوكية، ذلك لأن الذهب ايضاً سمي عندهم نسبة إلى لونه الأصفر.
ومع أن قراءة الكلمة لم تختلف كثيراً فقد تحول معناها ليختص باللون الذهبي أو الأصفر بدلاً عن الصفة الملوكية، في حين أن كلمة "ملك" قد تحولت إلى لفظ آخر هو "تسار" (царь) أي قيصر بدلاً عن "جال". وهذا اللفظ الجديد لم يُعتمد إلا بعد زوال حكم القبيلة الذهبية في عهد إيفان الرهيب. تغيّر لقب الملك مع تغير الديانة الحاكمة من الإسلام إلى المسيحية، ولم تتغير صفة وتسمية اللون الملكي الأصفر وكذلك صفة وتسمية الذهب.
عن اللون الأخضر:
وفي سياق بحث منفصل وبعيد عن موضوعنا الراهن حول "مجمع البحرين"، المكان الذي التقى فيه النبي موسى بالخضر عليهما السلام، ودراسة إحتمال أن البحرين هما الأبيض والأسود، وجدت أن المسلمين اطلقوا على البحر الأسود إسم "بحر الجرج"...
وكلمة جورجي أو كرجي بالعربية، أو غروزين "грузин" بالروسية، أو غوردجي "горджи" بالفارسية، هي ألفاظ مختلفة مشتقة من جذر واحد مع إختلاف اللهجات واللغات، وجميعها تدل على سكان دولة جورجيا القوقازية. وقريب من هذا اللفظ كلمة "كردي" وهي تدل على شعب مجاور لجورجيا وربما في الأصل هم شعب واحد، مع العلم ان العرب قد ميّزوا بين الكرد والكرج، وربما مرد ذلك يعود إلى إختلاف الديانة.
والخضر عليه السلام يقابله في المسيحية القديس "مار جرجس" أو "مار جريس" وبالانكليزية يسمون باسمه "George" واللون الأخضر عندهم "green". ومار جريس ولد في مدينة اللد في فلسطين في القرن الثالث ميلادي وهو (كما يروى) من قتل التنين في بحر بيروت وأنقذ أهلها، أو في بحيرة ليبية برواية أخرى، وبذلك يُعتبر مار جريس عند المسيحيين حامياً للبحار. صورته وهو على صهوة جواده ويقتل التنين برمحه مازالت تتوسط الدرع الرئاسي الروسي (النسر ذو الرأسين وفي وسطه القديس مار جريس) وكانت كذلك أيام القيصر.
وذكر لي أحد الزملاء أن الشركس يسمون البحر الأسود "خي زير". لم أجد مصدراً مكتوباً يوثق ذلك وساعتمد على رواية هذا الزميل. وهذا يشبه تسمية بحر قزوين ببحر الخزر.
والشركسية هي الأقدم بين اللغات الحية، وفيها كلمة "خي" تعني بحر و"زير" تعني الأول، والأول قد يكون الملك أو القائد أو الإمام. ولحد الآن لست ضليعاً باللغة الشركسية فلم ادرسها إلا منذ أيام، هي لغة سهلة الفهم صعبة اللفظ وتحتاج لممارسة لفهم وحفظ قواعدها وكلماتها. إن اخطأت التمس العذر.
وبناءً على قواعد إبدال الأحرف تتحول كلمة "زير" إلى "جير"، وبإضافة اللاحقة اليونانية "يس" تصبح "جيريس" القديس.
وكلمة "زير" الاديغية (لغة الشركس) تشبه كلمة "جال" السومرية التي تعني العالي أو الكبير، فحرف "ز" يمكن ان يتحول إلى "ج" كما هو الحال في الروسية، والراء الاديغية هي نفسها "ال" التعريف بالعربية ولكنها بقواعد الأديغية تأتي في نهاية الكلمة، وأيضاً تشبه بالمعنى لاحقة "ель" (إل) في الكلمات الروسية (لاحقة "ر" بالاديغية كأنك تقول "الذي هو طالب" بدلاً عن قولك الطالب، ولاحقة "ель" بالروسية كأنك تقول"الذي يعلم" بدلاً عن معلم).
و "زير" (بعد خذف اللاحقة الاديغية "ر" واضافة اللاحقة اليونانية "وس") هو نفسه زيوس "أبو الآلهة والبشر" عند الاغريق أي أنه "الأول" و"العالي" و"الكبير". و"مار جريس" بالتعبير السوري معناها السيد الأول أو السيد العالي.
و"خيزير" إسم علم ايضاً عند الأبخاز والقبردين ومن جاورهم، وهو لفظهم لإسم "خضر" العربي. وباعتماد هذا الطريق تكون تسميتهم للبحر الأسود "خيزير" أي "الخضر"، وهذا لا يخالف الطريق الأول، مما يقود إلى أن كلمة "خضر" العربية تقابل في معناها بحر القديس (خي زير) أو (خي جريس).
وكلمة "مار" التي تترجم بمعنى السيد أو القديس تشبه كلمة "موري" (море) الروسية ومعناها "بحر"، بذلك تكون "مار جريس" هي "بحر جريس" وهي "خي زير" وهي "خضر" وهذه ترجمات مباشرة ودقيقة بشكل مذهل ومحير. ولن أذهب مذهب المستشرقين لاستنتاج أن القدماء كانوا يقدسون البحر، فهذا مذهب الضعفاء العاجزين عن الغوص في أعماق اللغات القديمة.
وفي النتيجة، بحر "زير" أو بحر الجرج أو جريس او بحر زيوس هو بحر السيد أو القديس، والقديس هو سيدنا الخضر بالإسم العربي واللون الأخضر هو لون راية المسلمين في بلاد القوقاز وشواطيء البحر الأسود. وكلمة "زير" نطقت بالروسية "زيل" (على الأرجح نسبة إلى زيوس بعد إبدال اللاحقة الإغريقية "وس" باللاحقة الروسية "إل") ومنها اشتقت كلمة "زيلونيْ" (зеленый) بالروسية وترجمتها الأخضر.
وهكذا يكون البحر الأسود عند قوم هو نفسه البحر الأخضر عند قوم غيرهم، وسنعود لاحقاً لمناقشة الأمر.
-يتبع-
حسام شعبان