كتاب (بلاغة المنفى) لمحمّد عبيد الله:: إضاءات جديدة على جماليات القصيدة الدرويشية
صدر حديثا للناقد د.محمد عبيد الله، أستاذ الأدب والنقد بجامعة فيلادلفيا(الأردن) كتاب جديد بعنوان (بلاغة المنفى: تجربة في قراءة القصيدة الدرويشية) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان. خصص المؤلّف هذا الكتاب لتحليل قصيدة
صدر حديثا للناقد د.محمد عبيد الله، أستاذ الأدب والنقد بجامعة فيلادلفيا(الأردن) كتاب جديد بعنوان (بلاغة المنفى: تجربة في قراءة القصيدة الدرويشية) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان. خصص المؤلّف هذا الكتاب لتحليل قصيدة من واحدة من قصائد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941-2008)، وهي قصيدة (منفى: نهار الثلاثاء والجو صاف) من ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) المنشور عام 2005.
وجاء اختيار محمود درويش بحسب المؤلّف: "لاعتبارات متعدّدة؛ في مقدّمتها مكانة تجربته الشعرية وتطوّرها فيما يزيد على أربعة عقود، شهدت تحوّلات مُركّبة مُتداخلة، وبالرغم من انغماس درويش في الحركة الوطنية والسياسية الفلسطينية فإنه ظلّ محافظًا على أصالة شعره وعلى تجدّده، وتنبّه إلى حصار الهمّ السياسي وخطر الوظيفة الوطنية التي ألقيت على شعره، فبذل جهدًا غير خفيّ لتحقيق التوازن بين الوظيفة الجمالية ومتطلبات اللحظة السياسية والوطنية، وعبّر شعره تعبيرًا عميقًا عن مشاغل الهويّة الفلسطينية وإشكالاتها، في ظل التهديد الذي تعرّضت له، وغدا أداة من أدوات المقاومة ضدّ المحو وضدّ العدوان على وجود الإنسان وعلى لغته".
ويرى المؤلّف "أن درويش قَبِل التحدّي وناء أحيانًا تحت ثقله؛ كيف تكون شاعرًا متميزًا بمعايير الجمال والشعر واللغة، وفي الوقت نفسه تفي بمتطلبات قضيتك الوطنية؟ في مختلف مراحله بدءًا من الأرض المحتلة احتلّ هذا السؤال مركز وعيه، ومقالته أو صيحته المبكّرة المنشورة في مجلة الجديد (حيفا، 1969) بعنوان (أنقذونا من هذا الحبّ القاسي) خير دليل على ذلك، إذ أدانت الإطراء الزائد الذي استُقبل به (شعر المقاومة)، وطالبت النقد العربي أن يتحرّر من وهم التمجيد والإطراء والعطف، وأن لا يتردّد في نقد الرداءة الفنية".
وفي سبيل تحليل القصيدة تحليلا نقديا موسّعا انطلق المؤلّف -كما يقول في مقدمة الكتاب- "من أن الدراسة النقدية الحقّة لا بدّ لها - مهما تكن ذرائعها أو خلفياتها أو غاياتها- أن تهتمّ بمبنى الشعر وأدائه الفنّي؛ أي أن توجّه اهتمامها إلى الشعر بوصفه جنسًا أدبيًّا له قوانينه الخاصّة، وله طريقته النوعية في التعبير عن المعنى". ويرى د.عبيد الله أن "نقْد الشعر نشاط راسخ متجدّد، لكنني أعوّل على مبدأ حيوي يتعلّق بكفاءة القارئ، ذلك أن المناهجَ النقديّة أدواتٌ وتقنياتٌ يُستعان بها في تحليل النصوص، والنص الأدبي كما وصفه (أمبرتو إيكو) أقربُ إلى آلة كسلى تتطلّب من القارئ أن يقوم ببعض عملها، والنصوص لا تعمل أو لا تشتغل إلا بإتقان القارئ/الناقد لدوره، مهما يكن المنهج الذي يهتدي به في عمله النقديّ".
أما منهج هذه الدراسة فيستند بتعبير المؤلف: "إلى النقد اللغوي والبلاغي والنصي، ذلك أن النصية والدراسة الداخلية أمر مشترك بين مناهج وتيارات نقدية شتّى، بما فيها النقد العربي القديم، كما تجلّى عند الشيخ عبد القاهر الجرجاني الذي نعدّه رائدًا للنقد النصي القائم على أسس بلاغية وأسلوبية ولغوية متداخلة. ولذلك فإن اجتهادنا في هذه الدراسة يقوم على محاولة التقريب بين المناهج والاتجاهات التي عُنيت بدراسة الشعر دراسة داخلية، دون أن تنغلق على البعد التقني والتصويري، فالهدف من الشعر ليس الصور بل معرفة العالم، ومعرفة الذات". ويرى د.عبيد الله أنه قد طوّر"نَسيجة نقديّة تنتمي في أصول خيوطها إلى النقد العربي القديم، فهو نقد نصّي مبكّر عُني باللغة والصورة، وعُني بقضايا الغموض والبديع والصنعة والتناص، وخلّف حُزْمة غنية من المصطلحات والمداخل والآليات التي نراه متقدّمًا وسبّاقًا فيها، ولكنّه يحتاج منا إلى قدْر من الصبر لنراه في ضوء عصرنا الجديد، وفي ضوء المناهج النقدية الحديثة ذات المنشأ الغربي أو الأجنبي؛ فالصورة الإجمالية لنشاط نقد الشعر صورة ممتدّة غنيّة، وإن تكن شابتها في العقود الأخيرة بعض العيوب، ففي الجُملة هناك رصيد نقدي ثريّ قدّمه النقاد العرب وغير العرب لا بد أن يُستفاد منه، ويُبنى عليه".
تضمن الكتاب سبعة فصول مكثفة إلى جانب المقدمة والخاتمة وقائمة المصادر والمراجع، وتظهر هذه الفصول الخريطة النقدية للكتاب، وطبيعة الدراسة الداخلية الفاحصة التي اجتهد فيها المؤلف لتقديم نموذج للدراسة المتعمقة البعيدة عن التناول المضموني أو التاريخي، لصالح قراءة تحاول قدر المستطاع التعمق في النص الشعري وتأمله من منظورات متشعبة، والوصول إلى الدلالة انطلاقا من الدراسة النصية الداخلية. وهذه الفصول هي الفصول الآتية:
ففي الفصل الأول (سيمياء العنوان) اهتم المؤلف بتحليل العنوان ودلالاته، انطلاقا من أهمية ظاهرة العنونة في الشعر الحديث، واستنادا إلى ما طوّره النقد الحديث من طرق دراستها وتحليل علاماتها. وفي الفصل الثاني (بين الغنائية والسردية) أبرز الجدل بين الغناء والسرد في هذه القصيدة التي رأى أنها قصيدة تمزج بين الناحيتين، وإن يكن نسيجها الأساسي نسيج غنائي، أفاد من إمكانية المزج والانفتاح في القصيدة لتتسع لجملة من السمات السردية التي أثرت القصيدة وسمحت لها بالانفتاح على عالم الحياة اليومية، وعلى مواد مستعادة من الذاكرة. وفي فصل (بناء القصيدة) لاحظ المؤلف حرص درويش على بناء قصيدته بناء منظما وأنه من شعراء البنية المتّسقة وليس البنية الفوضوية، وأنه يقدّر البناء المتماسك الذي يفضي إلى وحدة القصيدة وإلى ضروب من العناية بمعمارها وهندستها. واستند الناقد إلى مفهوم (البنية الرحمية) لتحديد بؤرة القصيدة وجوهرها البنائي الذي نسبه إلى مبدأ الرحلة والترحال والمشي، كأن الشاعر الحديث يعيد إنتاج رحلة الشاعر القديم برؤية ولغة جديدة. أما فصل (البنية الإيقاعية) فأبرز التزام درويش بشعر التفعيلة وبالإيقاع المنظم، وأبرز محاولات التجديد المتاحة ضمن هذا الخيار بعيدا عن خيار القصيدة النثرية. وتعمّق المؤلّف في تحليل إيقاع القصيدة فاهتم باعتماد الشاعر على تفعيلة (فعولن) وأبرز ظواهر إيقاعية مهمة منها: التدوير، واستعمال اللازمة الشعرية، والزحافات والعلل، وألوان التقفية وتنوع القوافي وطرق تعويضها في قصيدة التفعيلة. وخصص المؤلف فصل (البنية المعجمية) لتحليل دور الكلمة في الشعر وعلاقة معجم القصيدة ومفرداتها بالبناء العام لها، ولجأ المؤلف إلى بعض أدوات الأسلوبية الإحصائية التي طورها الناقد والأسلوبي المصري سعد مصلوح، لاستكشاف أنواع الكلمات وقياس تنوعها. ووجد أن نسبة التنوع في المفردات نسبة عالية، خصوصا عندما تقارن باستعمال المفردات في النثر الأدبي. أما فصل (البنية التركيبية) فخصصه الناقد لدراسة الجمل، منطلقا مما سماه (جدل النحوي والبلاغي) واعتمد فيه على خلفيات من نظرية النظم للجرجاني والنظريات الأسلوبية والبنائية المعاصرة التي تركز على الجملة الشعرية. ودلّ الإحصاء على غلبة الجمل الفعلية في القصيدة، وهو ما ساعد على إظهار الخيوط السردية، كما لاحظ أن إسناد الأفعال جاء لصالح ضمير المتكلم (صوت الشاعر) مما حافظ على التوازن بين العنصرين السردي والغنائي. وعني الفصل بإبراز دور التراكيب الحجاجية التي تميز بها منطق درويش الشعري، كما اهتم بتحليل تراكيب النفي وربط في دراستها بين النفي في اللغة والنحو، ووجد أن دلالة النفي في اللغة تلتقي مع دلالة النفي في حياة الشاعر وتجربة الشعب الفلسطيني. وخصص المؤلف الفصل الأخير للاهتمام بـ (البنية التخييلية) عبر التركيز على الجانب التصويري في القصيدة. وإلى جانب إبراز مفهوم الصورة الشعرية عني المؤلف بدراسة كمية الصور ودرجة الاستعمال. كما تأمل نوعية الصور من خلال: التشبيه، الاستعارة، الصور المركبة، الصور العنقودية. كما لاحظ اجتهاد الشاعر في اختراع صور جديدة غير نمطية، أو السعي إلى تجديد الصور النمطية، واهتمت الدراسة بإبراز منابع الصورة عند درويش كما تظهر في هذه القصيدة الدالة.
وانتهى المؤلف في خاتمة كتابه إلى التأكيد على حاجة القصيدة الحديثة للقراءة المتأنية وإلى التحليل العميق، وأن تجربة قراءتها تجربة ممتعة تستحق الصبر والأناة.
مؤلف الكتاب د.محمد عبيد الله، ناقد وشاعر وباحث، مواليد عام 1969، حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الأردنية 1998م. بدأ نشاطه الأدبي أوائل تسعينات القرن الماضي، نشر مجموعتين شعريتين هما: مطعونا بالغياب/1993، وسحب خرساء/2005، ونشر نحو عشرين كتابا في النقد والدراسات التراثية والمعجمية، من أحدثها: الصناعة المعجمية والمعجم التاريخي عند العرب، الرواية العربية واللغة-تأملات في لغة السرد عند نجيب محفوظ، رواية السيرة الغيرية-دراسة في رواية مي ليالي إيزيس كوبيا لواسيني الأعرج، مفاتيح التراث-معجم الأديان والمعتقدات والمعارف قبل الإسلام.