تحت الركام.. ذاكرة غزة تتنفس باروداً
عملية انتشال "عائلة سالم" في حي الرمال تتحول إلى استخراج لذاكرة مدينة ومستقبلها المنكوب
غزة - خاص: مع شروق شمس جديدة، لا يحمل صباح غزة رائحة القهوة، بل يعبق بغبار الدمار وبارود القناصات. في شارع خالد بن الوليد، قلب حي الرمال النابض سابقاً، لا تهدأ أصوات المناشير والمطارق اليدوية، بينما تتصاعد أنات وأصوات استغاثة من تحت أنقاض بناية "ماجد أبو رمضان". المشهد هنا تجاوز كونه عملية انتشال روتينية؛ إنه بحث عن ذاكرة حية دفنت تحت الإسمنت، ممثلة في "عائلة سالم"، التي اختفت بين لحظة وأخرى تحت ركام منزلها.
من عاصمة التجارة إلى جغرافيا الحزن
لطالما كان حي الرمال الوجه الحضاري والاقتصادي لغزة. شارع خالد بن الوليد، بشوارعه المتشعبة، كان يعج بالحياة: جامعات، مقرات صحفية، مؤسسات دولية، ومتاجر ترفد الاقتصاد. اليوم، تحولت هذه الجغرافيا الحية إلى مساحة شاسعة من الرماد والخرسانة الممزوجة ببقايا حياة. تدمير بناية أبو رمضان لم يكن حدثاً منعزلاً، بل حلقة في مسلسل تدمير ممنهج للنسيج الحضري للمدينة.
لم تكن البناية مجرد حجارة وإسمنت. موقعها المحوري جعل تدميرها ضربة مزدوجة: سقوط عشرات الضحايا تحت الأنقاض، وتعطيل حركة فرق الإنقاذ والإسعاف، بالإضافة إلى تضرر خطوط المياه والصرف الصحي المجاورة، مما ضاعف المعاناة في أحياء بأكملها.
الركام هنا ليس صامتاً. بين الحطام تنتشر أدوات منزلية، صفحات كتب ممزقة، لعب أطفال محطمة، وإطارات صور تروي قصصاً لم تكتمل. يواجه رجال الدفاع المدني مهمة شاقة بالحفر أحياناً حتى 8 أمتار تحت مستوى الشارع، للوصول إلى الطوابق السفلية حيث قد تكون هناك حياة، أو جثث.
عائلة سالم: عندما يتحول البيت إلى قبر
عائلة سالم الممتدة، التي اتخذت من البناية ملاذاً يجمع أبناءها وأحفادها، أصبحت رمزاً للفقد الجماعي. على أطراف الموقع، تجلس وجوه شاحبة، عيونها معلقة بالجرافات الصغيرة، تنتظر خبراً يصير مع الأيام أكثر مرارة.
· كبار السن: ذاكرة تدفن مع أصحابها: وجود الأجداد والجدات تحت الركام يعني أكثر من فقدان أرواح؛ إنه انقطاع في شريط الذاكرة العائلية والتاريخ الشفوي الذي كانوا يحملونه.
· الجيل المنتج: أرامل وأيتام بلا معيل: كثيرون من المفقودين هم شباب في مقتبل العمر، كانوا عماد أسرهم اقتصادياً. رحيلهم المفاجئ يترك عائلات في مواجهة مصير مجهول.
· الأطفال: أحلام لم تر النور: أصعب اللحظات على طواقم الإنقاذ هي انتشال جثامين الصغار. كل طفل يُستخرج هو قصة مستقبل مُحطم، وحلم انتهى قبل أن يبدأ.
سباق محموم ضد الزمن.. وإمكانيات تلفظ أنفاسها
تعمل فرق الدفاع المدني في ظروف بالغة الخطورة، تحت تهديد انهيارات ثانوية، وبوسائل بدائية تثير الحزن. في غياب المعدات الثقيلة، يصارع الرجال كتل الخرسانة بالمطارق اليدوية والمناشير. يعتمد بعضهم على كاميرات حرارية بالية، بينما يحاول آخرون، بصمت مرهق، التقاط أي همسة أو حركة من بين الصمت الحجري.
يعلق أحد الجيران، الذي فقد منزله في القصف ذاته، بقوله: "الأمر ليس انتشال شهيد؛ إنه انتشال قصة. قصة كنا نعيشها معاً في هذا الحي. اليوم، لا نسمع سوى هدير الجرافات الصغيرة وصوت البكاء المختلط بالغبار."
تظل عملية انتشال عائلة سالم، وجيرانها، نموذجاً صارخاً للثمن الإنساني الباهظ الذي تدفعه غزة. كل جثمان يُستخرج هو صرخة جديدة تلخص فداحة الخسارة، ونداء عاجلاً إلى ضمير العالم: كفى.