مذكرات طبيب نفسي - قصة قصيرة
أنا الدكتور م.ج طبيب نفسي مقيم بالقاهرة، عيادتي تتوسط حي هاديء من أحياء العاصمة، المدينة العجوز الساهرة المليئة بالحياة والموت
بقلم/محمد جلهوم
****************
أنا الدكتور م.ج طبيب نفسي مقيم بالقاهرة، عيادتي تتوسط حي هاديء من أحياء العاصمة، المدينة العجوز الساهرة المليئة بالحياة والموت، والمكتظة بأكوام من البشر وأكوام من التجارب وأكوام من الحكايات، وهذا بالنسبة لشغوف مثلي كنز مكنون في انتظار من يمسه فينفتح ..
لن أكون مثالي في عيونكم، فيكفيك معرفة أن واحد مثلي يشرح النفس البشرية بسعادة نملة اقتنصت دودة كبيرة مليئة بالبروتين والشحوم، أعرف موطن الألم وأمسه فيصرخ صاحبه حتى يستريح، وفي بعض الأحيان يستغرقني الأمر حد الانغماس المطلق فأصرف العملاء المنتظرين أدوارهم واصدر الأمر ل "بيومي" الممرض المساعد لي ٱسمر البشرة مجعد الشعر ضيق العينين بألا يطرق باب غرفة الكشف حتى لو قتل أحدهم الاخر بالخارج !
واستحال أنا الى اذن وعين ولسان، اذن تسمع ولسان ينبري كل فينة ليوقظ في النائم أوجاعه ﻷقطفها، وعين تلاحظ بدقة قط يراقب فأر قبل قنصه !
ولكنني اكتشفت مؤخرًا أنني رجل قد تخطى عقده السابع بأيام وأن العمر لم يعد مضمونا وأن مرآة صالة عيادتي لهي أصدق من مرآة غرفة نومي بألف مرة، وأنني مازلت نهما للمعرفة، شغوفا للقتال في ميدان النفس، وأحيانا أراني سفاح النفوس، مدر الدموع، باعث الصرخات ومحيي الالام والأوجاع ..
فاتني من العمر الكثير وما تبقى قد يكون غفوة، وأن يقيني الأكبر أن البقاء على قيد الحياة لهو مغامرة عظمى ومباراة غير مضمونة النتيجة اذ انك قد تنتقل الى عالم الأموات ويتقدم اسمك لقب المرحوم في أي لحظة غير متوقعة !
هالني الأمر بشدة، كيف لكل هذا الكم أن يندثر، كم من القصص والخرافات والحكايات والٱوجاع، تجربة ثرية بين أعماق البشر هالني أن تفقد وتباع دفاتري لتجار المسليات والفلافل وتنتهي علي قارعة الطريق أو أسفل أقدامهم وهم يشاهدون فيلم في السينما، أو في بيت دعارة، أو في محرقة الفضلات والمخلفات
هكذا نحن، نحيا ونجري ونخترع ويمتدح جمالنا الاخرون وفي النهاية يتسلى علينا دود لا يرحم ولا يفرق بين شحاذ وبين وزير ولا بين دميمة وفاتنة !
نهضت وقد أثقلت رأسي بالأفكار نحو صندوق كبير مترب، قابع في ركن مهمل، مغلق بإحكام منذ عقدين ونيف بقفل نحاسي كنت قد ابتعته من بائع تحف في شارع المعز لهذا الغرض، وما أن مسسته حتى تلبستني رعشة، رعشة من يكشف عن مقبرة جماعية شارك بنفسه في اخفائها !
شاعرًا بالاثم مددت يدي نحو مفتاح عتيق معلق بسلك في مسمار مدقوق في رف خشبي، ودسست المفتاح في ثقب القفل وبعد محاولات مضنية بالكاد دار حول نفسه ليصدر تكة وينفرج، وما أن سحبته حتى ارتفع غطاء الصندوق سنتيمترات قليلة لتنبعث من أعماقه رائحة عجيبة جعلتني اجفل قليلا وأتراجع للوراء خطوة ..
وللحديث بقية ..
الدكتور م.ج، طبيب نفسي مقيم بالقاهرة
17 مارس 2021