ديفيد هيرست: «إسرائيل» تنثر بذور انتفاضة جديدة بعدوانها على الأقصى
نشر الكاتب البريطاني «ديفيد هيرست»، مقالًا جديدًا قال فيه إن «إسرائيل» تنثر بذور انتفاضة جديدة بعدوانها على المسجد الأقصى والاعتداءات على الفلسطينيين في القدس المحتلة.
نشر الكاتب البريطاني «ديفيد هيرست»، مقالًا جديدًا قال فيه إن «إسرائيل» تنثر بذور انتفاضة جديدة بعدوانها على المسجد الأقصى والاعتداءات على الفلسطينيين في القدس المحتلة.
وتابع «هيرست» في مقاله الذي نشره على موقع «ميدل إيست آي»، وترجمه موقع «عربي 21»: جيلًا جديدًا من الفلسطينيين ينتفض رغمًا عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولا يوقفه شيء.
وتاليًا الترجمة الكاملة للمقال:
قبل عشرة أعوام مشيت في طريق مبلط داخل حي الشيخ جراح إلى أحد منازله، وانتهى بي المطاف داخل غرفة تجلس فيها امرأة مسنة تحيط بها مجموعة من الصناديق والحقائب الموضبة.
أول ما لفت انتباهي حول رفقة الكرد هو حدة النظرات المنبعثة من عينيها. قالت لي إنها تعيش حياتها بين الصناديق لأنها تتوقع أن تأتي الشرطة في أي وقت لتخرجها من بيتها حتى يتسنى للمستوطنين الانتقال للسكن في منزلها. وقالت إنها لا تريد عندما يحدث ذلك أن يلقوا بملابسها في الشارع، ومن هنا أتى توضيبها للحقائب.
وهذه تجربة مرت بها من قبل، فقد أخرجت من بيتها في حيفا في عام 1948. ما الذي أبقاها هناك بين صناديقها؟ أجابت بكلمة عربية واحدة: “الصمود”.
توفيت رفقة في العام الماضي، في نفس ذلك البيت الذي منحتها إياه الحكومة الأردنية ووكالة غوث اللاجئين الأونروا. شرح لي ابنها نبيل كيف أن المستوطنين انتقلوا إلى توسعة كان قد أنشأها، واعتبرتها سلطات البلدية غير قانونية.
يقف نبيل الآن، وقد غزا الشيب رأسه، في المكان الذي كانت والدته تعتصم فيه خارج منزلهم، البيت رقم 13، بجوار جدار كتبت عليه عبارة باللغة العربية تقول: “لن نرحل”. ابنته منى الكرد، والتي هي حفيدة رفقة، هي التي صورت مقطع الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع، والذي يظهر فيه المستوطنون اليهود الذين يتحدثون بلكنات بروكلين وهم يقتحمون بيتها، وأحدهم يقول: “إذا لم أسرق أنا بيتك فسوف يسرقه غيري.”
لم ينته الأمر بعد
عندما قابلت عائلة الكرد وكتبت عن رفقة لم ينتبه أحد لها وللشيخ جراح. توجب علي أن أشرح للمحرر المسؤول في الصحيفة أين يقع حي الشيخ جراح، ولكنه حينها لم يستوعب الأمر. فالربيع العربي كان الحكاية الوحيدة التي تحظى باهتمام الجميع، وقيل للفلسطينيين – ولم تكن تلك المرة الأولى – إن صراعهم بات خبراً بالياً.
أما اليوم، فقد غدا حي الشيخ جراح موضوع البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة ووزارة الخارجية الأمريكية والسياسيين من مختلف ألوان الطيف في بريطانيا. وتنظم بشأنه المسيرات والاعتصامات أمام مقر الحكومة في لندن وفي مدن العالم من شيكاغو إلى برلين. وتحظى منى الكرد اليوم بجمهور عالمي عبر الأونلاين. وبناء عليه فإن بإمكاني أن أشهد بحقيقة واحدة حول أيام الفوضى العارمة التي اجتاحت الشيخ جراح والمسجد الأقصى وبوابة دمشق خلال الأيام القليلة الماضية، ألا وهي حقيقة أن إسرائيل أبعد ما تكون عن الانتهاء من الصراع الفلسطيني.
في العام الماضي أعلن تيار اليمين الديني القومي في إسرائيل أنه ربح تلك المعركة وأنه يتوجب على الفلسطينيين أن يقوموا بما ينبغي عليهم، وأن يخرجوا من بيوتهم رافعين الراية البيضاء. وكان اعتراف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل قد حول افتتاح السفارة الأمريكية في المدينة جزئياً إلى نوع من المراسيم الإنجيلية وجزئياً إلى استعراض بالنصر. يومها أعلن جاريد كوشنر في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة الافتتاح: “أي يوم عظيم هذا بالنسبة لإسرائيل. فنحن في القدس ونحن هنا لنبقى.” في نفس ذلك اليوم، وبينما كان جاريد كوشنر ينعق، قتلت القوات الإسرائيلية في غزة ما يزيد عن خمسين شخصاً.
ثم جاءت ما تسمى باتفاقيات أبراهام عندما طبعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين علاقاتهما مع إسرائيل.
في مقال له في صحيفة نيويورك تايمز، ورداً على كبير المفاوضين الفلسطينيين الراحل صائب عريقات، كتب داني دانون، الذي كان حينها سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة يقول: “ما المشكلة في الاستسلام الفلسطيني؟ ما هو مطلوب بالضبط من أجل السلام هو انتحار وطني من قبل الأعراف السياسية والثقافية الحالية للفلسطينيين.”
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يظن حينها أن بإمكانه دفن الدولة الفلسطينية من خلال التعامل مع دولة إماراتية أو بحرينية، ومن خلال رفع السودان من قائمة الإرهاب أو من خلال اعتراف واشنطن للمغرب بالسيادة على الصحراء الغربية. لابد أنه يدرك الآن مدى هزالة ذلك كله، ومدى تفاهة منجزاته في التطبيع مع العرب.
كفى
لا توجد لهؤلاء الزعماء العرب أدنى مصداقية لدى شعوبهم، ناهيك عن أن تكون لهم أي مصداقية لدى الفلسطينيين. كان نتنياهو غارقاً في الوهم عندما ظن غير ذلك. وها هو جيل جديد من الفلسطينيين ينتفض أمام سمعه وبصره، ولا يوقفه شيء، لا المياه العادمة ولا قنابل الغاز المسيل للدموع ولا القنابل الصوتية. في كل زاوية من شوارع القدس توجد منى الكرد.
كيف وصلوا إلى هناك؟ من الذي نشأهم؟ ومن الذي حرضهم؟
إنهم الجنود الذين كانوا يعتقلونهم في كل ليلة، والمحاكم التي قررت بأن المستوطنين هم الملاك القانونيون لبيوتهم، أو التي تصدر أوامر الهدم، وبلدية المدينة التي تقوم بتنفيذ تلك الأوامر، ومؤسسة مدينة دافيد، إلعاد، التي تقف وراء الادعاءات بملكية الأراضي والبيوت من خلال التنقيب عن الآثار وإسكان المستوطنين في سلوان، ورعاع اليمين المتطرف من الفتيان اليهود الذين يهتفون “الموت للعرب”، أو نائب عمدة المدينة آرييه كينغ الذي قال لأحد النشطاء الفلسطينيين إن من المؤسف أنه لم يتلق رصاصة في رأسه.
هذا التعليم والتربية على الحقد ما هو سوى ثمرة جهد متعدد الجوانب تقوم به مختلف المؤسسات الإسرائيلية وعلى كافة المستويات. وهو أمر مستمر معهم طوال حياتهم. والآن، ظهر هذا الجيل ليقول “كفى”. بالنسبة لهم، ما عاد يهمهم كم مرة تطلق الشرطة قنابل الصوت على المسعفين الذين يسارعون لعلاج المصابين، وعلى المصلين داخل المسجد الأقصى، وعلى النساء والأطفال في شوارع البلدة القديمة.
سوف يعودون ليلة بعد ليلة إلى المسجد الأقصى. بدون إلقاء حجر واحد يثبت وجودهم أن القدس الشرقية واقعة تحت الاحتلال وأنها سوف تبقى كذلك إلى أن تتحرر من السيطرة الإسرائيلية. ولكن الحجارة وغيرها الكثير سوف يرمى. فقد نظمت مسيرات حاشدة في الضفة الغربية وانطلت من غزة رشقات من الصواريخ، ويوم الثلاثاء قتل خمسة وعشرون فلسطينياً، بما في ذلك تسعة أطفال، في هجمات جوية إسرائيلية على القطاع.
إذا كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتحدث ويتصرف كما لو كان أرنباً سلطت عليه فجأة الأضواء الساطعة، وفي مواجهته أناس فقد كل سيطرة عليهم، فإن الأمر نفسه لا ينطبق على الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي غزة.
سمات مهمة
هناك ثلاث سمات تعطي هذا الاحتجاج مزيداً من الزخم، وينبغي أن تكون بمثابة النذير للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. أما الأولى فهي أنه وكنتيجة مباشرة لموجة عمليات التطبيع الأخيرة مع إسرائيل لم يعد يوجد فلسطيني واحد يتوهم بأن دولة عربية واحدة ستهب لنجدتهم حتى ولو بمجرد الخطابة.
لم يكن كذلك الحال في الانتفاضات السابقة، إذ لم يعد يوجد وسطاء نزيهون. يعلم الفلسطينيون جيداً أنهم باتوا لوحدهم، ولم يعد بوسعهم إلا الاعتماد على ما يتوفر لديهم من موارد.
وأما الثانية فهي أنه على غير ما كان عليه الحال في الانتفاضات السابقة، فإن الفلسطينيين كلهم مشاركون. من الثمانية وأربعين، من القدس، من الضفة الغربية، من غزة، ومن الشتات. تجذب الاحتجاجات في الأقصى المسيحيين والمسلمين على حد سواء، العلمانيين منهم والمتدينين، القوميين والإسلاميين. جاءوا من يافا وحيفا وكذلك من القدس.
وحينما أوقف الإسرائيليون الحافلات التي تقلهم على الطريق السريع جاء المقدسيون بسياراتهم لينقلوهم. فهم يحظون بوضع مختلف بموجب القانون الإسرائيلي. بعضهم يحملون جوازات سفر إسرائيلية، والبعض الآخر يحملون تصاريح إقامة مقدسية. لقد نكثت إسرائيل غزلها وأبطلت كل ما قامت به من أجل تكريس سياسة فرق تسد. لقد وحدت الفلسطينيين جميعاً.