محطات العمر .
منذ نصف قرن او اكثر قليلا ، كان لي وطن ، لم يكن لي ارض املكها ، ولا بيت ياويني ، لكني كنت احس ان جميع فلسطين وطني ، لم يمنعني احد من التنقل بين جباله وسهوله واوديته ، كنت مثل فراشة تحط حيثما تشاء
منذ نصف قرن او اكثر قليلا ، كان لي وطن ، لم يكن لي ارض املكها ، ولا بيت ياويني ، لكني كنت احس ان جميع فلسطين وطني ، لم يمنعني احد من التنقل بين جباله وسهوله واوديته ، كنت مثل فراشة تحط حيثما تشاء . ومثل طائر الشحيتي يتنقل بين الاغصان لا يعبأ بما حوله يختفي ويظهر ولا تكاد عينك تبصره الا لحظات .
كنت في مثل هذا اليوم اتسلح بالجزمة الطويلة ، وبمقلاع خشبي يشحذه لي قطروز او اي احد من الكبار ، واضع المخلاة في عنقي واصعد الى الجبال ، زوادتي رغيف خبز طابون مدهون بالزيت ، اجمع الشحيم من الجبال واجدله واجعل في راس الجديلة راسا كبيرا كنا نسميها الطاحونة .
الأرض سخية تجمع دون جهد كمية من اللوف والجعدة اما الفقع فهو الذي يعثر عليك ويناديك من تحت قدميك انتبه انا هنا ، يناديك عبق النرجس فتجلس تتامله ، وتتسلى اثناء التأمل بعروق البسباس والمرار ، ديوك السمن في الارجاء تتنادى ، وطائر السود يتنقل بين الواح الصبر وأشجار اللوز . لا يخفيه شيء ولا يخيفه صياد ، فالفخاخ اغلبها حول القرية، وكثيرا ما تخطى فتعطي هذه الطيور المهاجرة درسا في الحذر . ومن هذا المنطلق سمينا الطير الذي يتعذر صيده ( الحذري ) .
تمتلىء المخلاة بالخيرات فاهبط نزولا ، امر من معناة كانت في العام الماضي مزروعة بالبصل ، فاجد الرؤوس المنسية قد اينعت ورقا ، اخرج الزوادة واتناول أشهى وجبة في العمر . رغيفي المدهون بالزيت مع ورق البصل اليانع ، استلقي تحت الشمس على صخرة رطبة ، وقبل ان تتسلل الرطوبة عميقا في جسدي ، انهض الى أقرب ضحضاح فارتوي ، لا يهمني من شاركني الشرب منه ، فربما شربت منه الطيور ، وربما ثعلب شارد او زاحفة ، فالكل هنا يشرب ويمضي ولا يعكر الماء .
في مثل هذا اليوم كنت اعود محملا من خيرات الأرض، فتبتهج امي وتقول كلمة لا انساها . سبع والله سبع . مع ان كل الأطفال في ذلك اليوم كانوا سباعا مثلي . لكني احظى بهذه الكلمة ولا يحظون بها .
اقترب موسم الزعتر الجبلي والدريهمه وتفاح المجن والبريد والاصيبعة ، افتقد كل هذا ، وافتقد امي وهي تكافئني بكلمة سبع .
لن تعود امي ، ولكن هل يعود لي وطني ؟؟؟؟
د. احمد عرفات الضاوي