أحلام صغيرة - قصة صغيرة
ابو ابراهيم رجل اربعيني طويل قوي البنية . خبير في الفلاحة وصبور عليها . قليل الكلام دائم الابتسامة يحبه الأطفال ويتعلقون بالبالطو الجيشي الذي كان يلبسه صيفا وشتاء .
لم أره يوما غاضبا أو متذمرا من شيء . يقبل باي طعام يقدم إليه ولا يتشهى كغيره من الناس . تنقل للعمل مع أكثر من اقطاعي واستقر به المقام أخيرا في ام الزرازير عند أحد الاقطاعيين . يقوم باي عمل يسند إليه حتى لو كان بطلب ابن الاقطاعي الصغير . طالما رأيته يقطع الأغصان اليابسة والقرامي تحت اشراف زوجة الاقطاعي .
كان يتوقف عندما يسيطر عليه التعب فيمسح عرقه وينظر نحو الأطفال مبتسما ثم يعود إلى العمل دون تذمر . في الليل يأوي إلى خشة بين المتبن وزريبة الدواب . إذ عليه ان يتفقد المداود ليلا ليضمن ان البقرات ستمضي في الصباح إلى العمل وهي مملوءة البطون.
أمضى ابو ابراهيم سنوات في المكان لم نر له زوجة أو أطفالا. كان يحنو على الأطفال أكثر من آبائهم . وطالما فاجاهم عند عودته في المساء من الحراث بعصفور مذبوح وممعوط أو ببعض الفقع أو ظفيرة صغيرة من الشحيم . كان جيب البالطو الجيشي الكبير مستودعا لا يخلو من مفاجأة لطفل .مع وعود مؤجلة للاطفال الآخرين. وغالبا ما كان يفي بوعده .
رأيته مرتين يسأل ذيبة عن ثمن علبة السردين . فوعدته ان تسأل عن ثمنها عندما تذهب الى المدينة في رحلتها الأسبوعية لبيع ما جمعته من لبن وخبيزة وعكوب .
اخبرته ان ثمنها أربعة قروش ونصف . مضى صامتا فهو يعلم أن ما بحوزته قرطة وتعريفه يعني ثلاثة قروش فقط . لقد أصبح العالم كله في نظره علبة سردين . لم يذقها سوى مرة في حياته عندما رأى جنودا قد علقت سيارتهم في خندق صنعه السيل فاجتهدوا في إخراجها ولكنهم فشلوا . تقدم ابو ابراهيم ورفع السيارة من الخندق بينما عمل الجنود على ردم الخندق بالحجارة والتراب . فكافأه العريف بعلبة سردين ورغيف فينو جيشي . لقد مضى سنوات على هذه الواقعة . وهو الان يتشهى السردين .بل إن كل خلية في جسده تريده . مر شهران حتى أمتلك الرجل ما تبقى من ثمن علبة السردين . فتسلل إلى ذيبة وأعطاها النقود واحتفل في اليوم التالي على طريقته بهذه المأدبة.
انتظر حتى العصر ووقف في طريق الطابون وطلب من زوجة معلمه رغيفا . جلس أمام المتبن ووضع رغيفه الساخن على بلاطة صغيرة .وتانى في فتح علبة السردين فوق الرغيف حتى لا يفقد قطرة من زيتها . .ولما استقرت على الرغيف اخرج من جيبة صرة صغيرة وفتحها ثم رش بعضا من محتواها على السردين .
لم يستوقفه شيء في هذا الكون وتركزت كل حواسه على الرغيف وما عليه . لم يسفزه منظر الأطفال والقطط التي تجمعت من كل مكان فهي مثل ابو ابراهيم لم تشم رائحة السردين طوال حياتها .ولكن غريزتها جذبتها إلى المكان . مواءها وعراكها لم يشتت انتباهه عن الوليمة . كانت دقائق قليلةحتى اكتشفت الوليمة. وكانت آخر لقمة من الرغيف مخصصة لمسح ما تبقى من الزيت في العلبة الصفراء .
لم تغادر القطط فرائحة السردين لا يمكن مقاومتها وما زال لديها امل عندما يغادر الرجل المكان . قام الرجل وتفرق الأطفال وبقيت وحدي اراقب المشهد .
فتح الرجل في السنسلة ثغرة ووضع فيها علبة السردين الفارغة ووضع فوقها بعض الحجارة الصغيرة وغادر المكان . وبقيت وحدي أشاهد صخب القطط ومحاولاتها اليائسة للوصول إلى العلبة المدفونة . مرت ساعات والقطط تتجمع وتحاول ولا تفقد الأمل. وانا اتابع تلك المحاولات والمعارك التى تسببت بها رائحة السردين بين القطط .
سالت نفسي يومها لماذا فعل ابو ابراهيم هذا المقلب بالقطط ؟؟ هل وراء سلوكه حكمة ؟؟؟
في عام 1970 كنت معتقلا مع عدد كبير من الناس شيوخا وأطفالا وشبابا في معسكر مشاة الزرقاء .بعد حوادث ايلول . كان الجوع عنوان المرحلة فالطعام شحيح . ويبدو أنه أصاب الناس ما أصاب ابو ابراهيم .
وزع الحراس علينا علب سردين دون مفاتيح فاخترع كل واحد منا طريقته للولوج إلى العلبة . ومن صبر استطاع فتح علبته بطريقة لا تضيع قطرة زيت . وكان ذلك يحتاج إلى اثنين .واحد يمسك العلبة يدس الحديدة البارزة بين أسلاك السياج ويلفها والآخر يمسك بالرغيف من الأسفل. وفي الصباح كانت الاسلاك الشائكة قلائد من علب السردين . لقد كنا في هذا المكان مثل قطط ابو ابراهيم .وما أحدثته من صخب للوصول إلى العلبة المدفونة في السنسلة . أدركت يومها ان الأحلام التي يراها الآخرون صغيرة هي بحجم الشمس . وان الأحلام لا تقاس بمعايير المتخمين.
د. احمد عرفات الضاوي