لمناسبة تكريم مؤسسة سيدة الأرض الفلسطينية للشاعر الفلسطيني عبد الله عيسى
تعود بي الذاكرة إلى عام 1980... إلى مرحلة الصبا والفتوة المتقدة، يوم دعينا لإلقاء الشعر في إحدى مدارس بلدة ببيلا قرب دمشق.
تعود بي الذاكرة إلى عام 1980... إلى مرحلة الصبا والفتوة المتقدة، يوم دعينا لإلقاء الشعر في إحدى مدارس بلدة ببيلا قرب دمشق. لا أذكر إلا ما تيسر للقلب أن يحفظ من عبق تلك الاحتفالية التي كانت أول منبر لأولى كتاباتي الشعرية، التي كانت تزحف مشغوفة ببحور الخليل، تريد تطويعها بأي شكل كان. اعتلى المنصة فتى نحيف، معتدل القامة، في عينيه بريق لا يريد الانطفاء، بريق يبحث عن أفق ضائع لا يجده في سماء ببيلا التي ضمت بين ظهرانيها قطعة من تغريبة الفلسطينيين – مخيما لم تعترف به وكالة غوث اللاجئين مخيما. عبد الله عيسى ذلك الفتى الشاعر حتى الثمالة، أو بالأحرى حتى التحليق إلى قمم السحاب الراعشة، قرأ شعرا أكبر من يفاعة سنه، وأبلغ من اندفاعة الجمال في ريعانه. كانت نبرات صوته وهو يرتل قصيدته الممتدة، امتداد نفَسه الشعري الطويل، هادئة ناعمة رقيقة، لكن في قعر باطنها استقر تحدٍّ من نوع ما يتوثب في كبرياء. في ذلك الجو المتوج بمشاعر تواقة للمدهش الغامض، المتحمس للجديد، المنعم بالبيان والمعرفة، تعرفت إليه، وبعد أيام – أو أسابيع قليلة، لا أذكر – زارني عبد الله في بيتي في مخيم سبينة قرب دمشق. كان محدثا هادئا وبليغا في الحديث عن نثرية الحياة، بارعا في جذب الانتباه إلى الشعر والإبداع وإلى سيرته القصيرة، نظرا لصغر سنه وسني آنذاك، لكنها سيرة ثرة تنبئ السامع بعالم شعر مميز ممتد إلى خيمة الأجداد في قريتي أكراد البقارة وأكراد الغنامة في ريف صفد المؤيد بالسهول والتلال وسلاسل الأحجار السود المتدحرجة جنوبا حتى شط طبرية، والقريتان تقعان على مرمى حجر من قرية آبائي "القديرية" في الجليل الفلسطيني المغتصب. مضت الأيام ولم ألتق عبد الله إلا في مناسبات قليلة، لم يتسن لنا فيها الحديث بما تشتهي الأنفس في فورة الذكريات. محطات كثيرة مرت في قطار الغربة والحنين غادرها عبد الله، كما غادرتها أنا – كأي فلسطيني، وهي محطات متشابهة لا تختلف إلا باختلاف أسماء الأمكنة – غادرت دمشق في عام 1986 وتركت جامعتها منطلقا إلى تجربة جديدة في كييف ورستوف على الدون (الاتحاد السوفييتي) ، ووصل عبد الله إلى موسكو في عام 1989، ودرس الأدب في معهد غوركي، وحقق إنجازات جمة في العلم والشعر والثقافة والإذاعة والسينما، وغادرت روسيا حين غادَرَنا الاتحاد السوفييتي إلى الأبد، ولم ألتق عبد الله هناك. قبل يومين تهادى صوت عبد الله عبر الهاتف هادئا رقيقا حنونا، يا إلهي إنه الصوت نفسه لم يتغير منذ أكثر من أربعين عاما! النبرات نفسها، هي التي أعادتني إلى صورة الشاعر المدهش – الفتى النحيف، المعتدل القامة، الذي في عينيه بريق لا يريد الانطفاء، الباحث عن أفق ضائع في سماء التغريبة الفلسطينية.
د. يوسف شحادة