خرابيييش
في ضروب هذه الحياة ، ورغم اعوجاج الشارع الا انه استقام أخيراً في مسافة نصف متر ، يضع يديه في جيبي معطفه وكأنما يحتضن نفسه من شدة البرد، او ربما كان يحتضن روحه
في ضروب هذه الحياة ، ورغم اعوجاج الشارع الا انه استقام أخيراً في مسافة نصف متر ، يضع يديه في جيبي معطفه وكأنما يحتضن نفسه من شدة البرد، او ربما كان يحتضن روحه ، وتدلف قطرات المطر عن جبينه الى مقدمة أنفه ، لتلتحق بأخواتها في إحدى حفر الشارع
نظرهُ لا يكشف امامه أكثر من نصف متر في الأفق ، يسير بلا هدى ، يرافق الشارع الى أي مكان يأخذه اليه في جولة الضياع هذه ، عن جدوى الحياة وما فيها .
عبر هذه المسافة ، حطت عيناه علي يد تحمل فيها كيسا ، يد يكاد يميل لونها للزرقة من شدة البرد ، يكاد الدم يتجمد في مجاريها ، يد تصنمت في حينها ساقيها في مكانهما ، وتوقفت خطواته أيضا ، فهذه الرائحة التي تعبق منه تعرفها ، وتلك اليد يعرف تفاصيلها مفصلا مفصل ، ويعرف المسافة الفاصلة بين كل مفصل ومفصل ، ولم يكن هذا اللون ليخدعه عنها ، وتلك الأنفاس تشتد في صوتها وتتعاجل في سرعتها ، حتى صار الشارع ادفأ ، رغم كل ذلك البرد الذي يحيط بكليهما ، وكأنما أصبحا في فقاعة من أنفاسهما.
رفع رأسه للأعلى ، وكانت تقف أمامه ، تتدلى خصلتان من الشعر المبتل فوق وجهها ، دمعة مختنقة بعينين بدأتا تميلان للإحمرار ، شفتان زرقاوان واسنان تصطك في بعضهما ، ورأسا يختفي نصفه بين كتفيها ، وهي تحاول تدفئة نفسها .
تقدم خطوتين ، ثم خطوتين ، أخرج يديه من معطفه ، فتح أزراره ، واحتضنها تحت أحد ذراعيه .
لم يكن قد ابتعد كثيرا عن بيته ، بضع مئات من الأمتار ، صعد الدرج ، فتح الباب ثم ارخى جناحه عنها ، أخذ عن كتفيها معطفها وعلقه ، وكذلك خلع معطفه ، ثم ناولها منشفة تنشف ما علق بها من مطر ، أشعل نار موقده وجلس تاركا لها فسحتها بجانبه ، وكان الشاي لا يزال دافئا ، فقط يحتاج لبعض التسخين .
أخذت مكانها امام الموقد ، تفرد يديها فوق لهيبه ، ثم أعلن ابريق الشاي بصفره موعد غليانه ، وراح ليصب لها ما تدفيء به جوفها من رشفات .
بعد حين ، أومأ إلى الكاسة برأسه إن كانت تريد المزيد ، فرفعت حاجبيها للأعلى ، وكانها تريد القول أخذت كفايتي ، جلسا بعض الوقت ، نظرت إليه ونظر إليها ، وكأنما كانت تريد القول أريد البقاء أكثر ولكن ، وكأنما رد عليها بنظراته ليقول لا بأس ، ثم نهضت ، ارتدت معطفها .... وغادرت
مصطفى المعايطة - الأردن