كورونا
منذ ساعات الليل الأخيرة كان الطفل يبكي ، الأم بلا حول ولا قوة تحاول تهدأته ، والأب يضع فوق رأسه مخدته علّهُ يستطيع تحاشي طعنات بكاء طفله في أعماق روحه ، ولكن صراخه
منذ ساعات الليل الأخيرة كان الطفل يبكي ، الأم بلا حول ولا قوة تحاول تهدأته ، والأب يضع فوق رأسه مخدته علّهُ يستطيع تحاشي طعنات بكاء طفله في أعماق روحه ، ولكن صراخه كان أعلى من القدرة على التحاشي.
ارتدى الوالد لفحته حول عنقه ، وما وجده أمامه ليرتديه في قدميه ، وهام على وجهه معلقاً بالأمل يبحث عن أي صيدلية ، ولما خرج وجد أن اللشوارع فارغة من أي مار طريق يُقلُّه في طريقه ، وهكذا استمر في المشي أملاً بأي صدفة تلتقط وجعه .
الجو بارد جدا ، يغط رأسه بين كتفيه ، يديه في جيبيه ويسير ، حتى وصل السوق ، والسوق في ذلك الوقت الباكر جدا جميع محلاته مغلقة ، ومثلهم الصيدلية ، فجلس ينتظر ، تمر الدقائق وكأنها ساعات ، ولا زال صدى بكاء طفله يتردد في أذنيه ، حتى ملَّ منه صبر الانتظار ، وهمَّ في خلع ابواب الصيدلية ، وإذ بمنادي الفجر ينادي بالأذان ، وكأنما تحذير من الله ، فتراجع ، فالله يرى ، وكذلك بعض المارة من المصلين ، ثم أقنع نفسه بصبر ساعة .
وهكذا مر الوقت وهو ينتظر ، وفتح اول المحلات ، تبعه آخر فآخر ، وأخيرا شرّعت الصيدلية ابوابها لاستقبال الأرف أشعة الشمس ، وكانت استفتاحية الصيدلاني به ، فطلب حليبه على عجلٍ ، وراح يفتش في محفظته المثقوبة بعض الدنانير ، ولكنه اكتشف بأنه لا يملكه ، وصار الوجع وجعين ، حتى تذكر بأنه يحمل بطاقة صراف زوجته ، علَّ في حسابها ما يسد رمق جوع طفله ، وهكذا خرج من الصيدلية يجر وجعه خلفه ، ويعلق أملاً مستحيلا على حساب زوجته ، حتى وصل الى الصراف ، ينتظر في دور لم يطل بعد ، شخصان فقط أمامه ، حتى وصله الدور ، وكانت الخيبة في انتظاره ورقم الصفر يتربع عرشه ، فثارت ثائرته وانفجر بكاء ، حتى اجتمع حوله البعض يسألونه عمَّا حلَّ به ، وهو يهذي بحاجته وبكاء طفله وقلة حيلته ، ولكن الناس كانوا له عونا وسند ، فأعطوه حجاته وما يزيد ، وهو مهدور الكبرياء في حضورهم ، لا يعرف ماذا يستطيع أن يفعل غير قبول إحسانهم بوجه يقطر ألما ، وعين تنزف دمعا حارا يحرق وجنتيه ، وهكذا غادر ليشتري علبة الحليب تلك ، وعاد لبيته وطفله متجرعا الذُلّ والعوز والحاجة .
راح يغط في نومه ويستريح ، ليس له مزاج بالذهاب الى عمله ، كما أنه يشعر بالكثير من التعب ، فإنها ليلة لم يذق فيها طعم النوم والراحة ، وزاد عليه الأمر الذلَّ والمسألةَ .
كان في نومه يرتجف ، يهذي ، تحاول زوجته إيقاظه ولكنه غائب عن الوعي ويتصبب عرقاً ، حتى شعرت بيدها حرارة وجهه مرتفعة جدا ، وهكذا اتصلت بالطواريء ، وصلوا المستشفى وكانت تنفسه سريعا ، معدل الأوكسجين في دمه منخفضا ، وصورة الأشعة والفحوصات تبدي التهابا رئويا ، إنها كورونا اللعينة .
انخفضت حرارته قليلا ليجد نفسه بالمستشفى ، معزولا في غرفة خاصة ، لينادي الكادر الذي دخل عليه مرتديا لباس العزل ، وهنا كان الأمر واضحا له قبل أن يخبره الطبيب بشيء ، وتذكر الرجل المريض الذي كان في دور الصراف قبله ، وتلك العطسة التي عطسها في وجهه .
الأمر لا يطمئن بخير ، فهو مصاب بالربو ، ويأخذ الكوتيزون المثبط للمناعة منذ وقت طويل .
علامات تنفسه الحيوية ومستوى الدم في الأوكسجين رغم قناع الأوكسجين تبدو أقل من الطبيعي بكثير ، أخبره الطبيب بأن الامر اذا استمر على ذلك النحو فإنه سيضطر لتنويمه ووضعه على جهاز الأوكسجين ، فضاق به الكون في تلك اللحظة ، ماذا سيحل بزوجته وطفله ؟؟!!
الأمر عصي على التصديق ، على القدرة على الاحتمال ، فزوجته لا تعمل ، وكان هو بعمل لا يكاد يغطي بعض التزامات هذه الحياه ، وخصوصا بعد ما جرى من تقليص للرواتب في ازمة كورونا ، وهنا لم يجد نفسه الا يحاول النهوض ، وقد أخرج الأبر من يديه ، وازال قناع الأوكسجين عن وجهه ، محاولا الخروج غير آبه بنفسه وحياته ، فهناك من يجب أن يخرج من أجلهم .
خطى خطوتين فالثالثه ، شعر بالاختناق الذي أرداه ارضا ، أعادوه لسريره وكبلوا يديه بالقيود حتى لا يقاوم ، جرعة منوم كانت كافية لتغييب عينيه عن وعيهما ، وكان القرار بالنسبة لعلامات تنفسه الحيوية ، وانفجاره هذا أن يضعوه على جهاز التنفس الاصطناعي ، ولكن ؛ كان الفيروس أشد فتكاً برئته المتضررة بالربو من قدرة الجهاز على مساعدته ، وهكذا خرج من تلك الغرفة الى ثلاجة الموتى ، لم تره بعدها زوجته ولا طفله .