قراءة في قصيدة للشاعر عمار السبئى بقلم احمد بركات
قراءة في نص ( فحص روحي ) للشاعر عمار السبئي بقلم / احمد بركات يقول ملك البلاغة عبد القادر الجرجاني : إن نظم الكلام تقتفى فيه آثار المعاني.
قراءة في نص ( فحص روحي ) للشاعر عمار السبئي بقلم / احمد بركات
يقول ملك البلاغة عبد القادر الجرجاني : إن نظم الكلام تقتفى فيه آثار المعاني.
ونحن الآن بين يدي هذا النص نحاول أن نقتفي أثر المعاني التي تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها تاركة هذا الأثر الساحر في نفس القارئ ؛وهذا ليس بغريب على عمار السبئي فمسحة الحزن التي تحيط بعالم هذا الشاعر تطغى على باقي الأحاسيس الأخرى مخلفة وراءها عاصفة لا تهدأ في نفسه ولا في نفس القارئ بل إنها غالبا ما تصنع التحاما قويا بين روح الشاعر وروح متابعيه وقرائه .
وإن كان التجديد في الشعر محل نقد من البعض ومحل ترحيب من آخرين فإن المتابع للتجربة الشعرية لعمار السبئي يجد أنه لم يخرج أبدا عن نطاق التجديد الحميد فهو يلتزم ببحور الشعر العربي لكنه لا يغفل تجدد مظاهر الحضارة التي تترك أثرها في النفوس والمشاعر بل ولعله يدخل على الشعر مرادفات ربما لم يستعملها غيره من شعراء الشعر التقليدي أو الكلاسيكي ،وبرغم ذلك يتلقاها القارئ ولا تقف حائلا بينه وبين أصالة النص وشاعريته ولعل في هذه القصيدة ما يؤكد على هذا الطرح بل لعل عنونها بحد ذاته دليل دامغ عليه.
وقصيدة اليوم تعود بي الى زمنين مختلفين العصر الجاهلي والعصر الحديث فأما عن الأول فقد ذكرتني بقصيدة النابغة الذبياني وهي على نفس البحر {مجزوء الكامل} حيث يقول:
المرء يأمل أن يعيش... وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى...بعد حلو العيش مره
وتخونه الايام حتى.... لا يرى شيئا يسره
كما أعادتني الى العصر الحديث فذكرتني بمقولة الأديب الكبير طه حسين حيث يقول :لغتنا العربية يسر لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه.
هنا كعادة عمار السبئي يطالعنا ببداية قوية تثير الدهشة ربما أو لعلها توقظ الفضول لدى المتلقي فيلتصق والقصيد ربما لقوة البداية التي تترك علامة من الاستفهام قد تصل الى حجم المجرة أحيانا.
يقول السبئي :
وجَــــعــي يـــعـــاشـــــر ُمُــــوْجِـــعــــي
وأســـــيـــــــرُ ضــــدِّي لا مَــــــعـــــــــي
بداية تحمل من العاطفة التصوير التضاد الموسيقى الوزن الخيال الأصالة والألم ما تحمل فضلا عن التصريع وهو ما يوحي بمطلع قصيدة متماسكة البنيان أصيلة المنبت عاصفة للذهن تخرج به عن حد المألوف إذ كيف يسير الإنسان ضد نفسه لا معه!!
ويعلل الشاعر بأبياته اللاحقة سر هذا الوجع وكيف أنه أدرك منذ ولادته سر الميلاد والحياة وهو بذلك يومي إلى الموت الذي بات يرجوه ربما طمعا منه في تحقيق مالم يحققه فعلا بالحياة فيقول :
أنا مـــنْــــذُ جـــرَّبْـــــتُ الْـــحـــيــــا
ةَ ووشْـــوشَـــتْ فــــي مَـــسْـــمَـــعــــي
أدركــــــــتُ سِـــــــــرَّ وجــــودِهـــــــا
فــــغــدوتُ أعــــشَـــقُ مَــصْــرعـــي
الغريب ربما أن ينفي التهمة عن الدنيا في تعاسته وحرمانه وقتل الحلم داخله وربما كان ذلك فقط كي لا يطيل المكوث والجدل واصرارا منه على قراره القاطع بالرحيل فيميل بنحره على حد مدية الأحزان مقنعا إياها بحديثه علها تستجيب قائلا :
لا شـــــأنَ لـــلــــــدُّنْــــــيـــــا أنــــــــا
أنـــــــا مــــــنْ أؤرِّقُ مـــضْـــــجــعـــــي
يـــا مـــــــديـــــــةَ الأحْــــزانِ نـَــحْـــــ
ري فـــــوقَ حــــدِّكِ فـــاقْـــطَـــعـــــي
ولعله ترجى النصل كثيرا كي لا تأخذه به شفقة مستحضرا في ذهنه قصة ابراهيم عليه السلام اذ تل ابنه للجبين مطوعا الأحداث في حبكة شعرية درامية لازالت تمسك بتلابيب القارئ وكأنه هو من يتل الى الجبين ولا يكاد يفيق حتى يلقفه تمكن هذا الشاعر ومدى توظيفه للمفردات وإن كانت حديثة على دنيا القصيد إلا أنه قد وضعها في مكانها من المبنى بدقة متناهية حين يقول:
هـــذي الـــطُّـــقـــوسُ مــــريــــحـــــةٌ
لـــي حـــوْقِـــلــــي واسْــتـــرجـــعـــــي
أنــــــا مــــــيِّـــــــتٌ أنـــــا مَــــــيِّـــــــتٌ
يــا..يــا رَحـــيْـــمـــةُ فـــاسْــمَــعـــي
أنــــا عـِــلَّـــــتــــــي وطَـــبــيْــــــبــــهــــا
وجِـهــازُ كَـــشْـــفــــي الــمَــقْــطَــعـــي
هذه الأبيات الثلاث تعدل ديوان شعر من العيار الثقيل اذ كيف استطاع عمار السبئي أن يحوّل لفظة [حوقلي] وهي اختصار للا حول ولا قوة إلا بالله ، كذلك لفظ [استرجعي] وهو اختصار لإنا لله وإنا اليه راجعون إلى شعر يقرأ في كلمتين ويضفي كل هذا البعد والثراء اللغوي !!
وكيف في بيته الثاني كرر الجملة في الصدر ثم النداء في العجز وكأنه بدأ يتلعثم في بكائه لكثرة حديثه دون اقتناع من النصل فبدأ يتمتم "أنا ميت أنا ميت " ويتهته " يا.. يا رحيمة فاسمعي!! ألهذا الحد بلغ الحزن مبلغه !؟أتٌدعى المدية بالرحيمة إلا في حزن كحزن عمار؟؟
وكيف أن هذا الطبيب الشاعرالذي يعرف علته أدخل على مرادفات الشعر جهاز الكشف المقطعي مؤكدا على نظرية لأرسطو حين ذكر أن الإبتكار أساس الشعر
ولا أدري كيف استطاع شاعرنا ذلك ؛لكنه متمكن متغلغل بحالته التي يحياها بل التي تحياه ربما ؛ويبلغ الأمر مبلغه حين يقول مخاطبا روحه :
مـــا دامَ حـــزْنُـــــكِ غَـــاصِــــبَــــاً
ذوبــــي بـــــهِ واسْــــتَــمْـــتِـــعـــــي
ثم يختتم ببيتين غاية في الجمال متمما البنيان الذي بنى والحديث الذي بدى بينه وبين روح روحه وكذا الحديث الذي بينه وبين مقتفي أثر المعاني جاعلا من حزنه قوتا يعيش به ومعه فيقول السبئي لروحه:
ولـْــنَـــــقْـــتَـــســــــمْ أقـــواتــــنــــــا
كــــــلٌّ يـــخـــــبِّـــــئ مـــــا يَــــعـــــي
مـــعــكِ الـقـلـــيــــلُ مـــنِ الـــرَّجـــا
وكـــــثــــيــــــر ُأوجـــــاعٍ مَـــــــعـــــــي
ويتركنا في بحر من التيه والألق.
،
{ فـــحْـــــصٌ رُوْحِــــــــي }
-----------------------
وجَــــعــي يـــعـــاشـــــر ُمُــــوْجِـــعــــي
وأســـــيـــــــرُ ضــــدِّي لا مَــــــعـــــــــي
*
*
أنــــا مـــنْــــذُ جـــرَّبْـــــتُ الْـــحـــيــــا
ةَ ووشْـــوشَـــتْ فــــي مَـــسْـــمَـــعــــي
*
*
أدركــــــــتُ سِـــــــــرَّ وجــــودِهـــــــا
فــــغــدوتُ أعــــشَـــقُ مَــصْــرعـــي
*
*
لا شـــــأنَ لـــلــــــدُّنْــــــيـــــا أنــــــــا
أنـــــــا مــــــنْ أؤرِّقُ مـــضْـــــجــعـــــي
*
*
يـــا مـــــــديـــــــةَ الأحْــــزانِ نـَــحْـــــ
ري فـــــوقَ حــــدِّكِ فـــاقْـــطَـــعـــــي
*
*
إنْ كـــــانَ دمْــــــعــــــي عــــائـِـــقــــاً
فــــــوراً أغـــــيِّـــــرْ مـــــوضِــــعــــــي
*
*
أوْ ســـــوفَ أبـــــكــــي داخِــــلــــــــي
فــــأريْــــــكِ زيــــفَ تَـــمَــــتُّـــعـــــي
*
*
رمَــــقـــــــي كَـــرهْـــــتُ بــــقـــــائــَـــهُ
زمَـــنَـــــاً بــــــفــَـــضْــــــلِ الأدْمُـــــــــعِ
*
*
هـــذي الـــطُّـــقـــوسُ مــــريــــحـــــةٌ
لـــي حـــوْقِـــلــــي واسْــتـــرجـــعـــــي
*
*
أنــــــا مــــــيِّـــــــتٌ أنـــــا مَــــــيِّـــــــتٌ
يــا..يــا رَحـــيْـــمـــةُ فـــاسْــمَــعـــي
*
*
أنــــا عـِــلَّـــــتــــــي وطَـــبــيْــــــبــــهــــا
وجِـهــازُ كَـــشْـــفــــي الــمَــقْــطَــعـــي
*
*
ولـــــقــــــدْ تـَـــــقــَـــرَّرَ أنَّــــــــنــــــي
مـــــوتــي بـــدايـــةَ مَـــطْـــلـــعــــي
*
*
كـــمْ قـــــدْ حـــيــيْـــتُ تـــغـــرُّبــــاً
ورحـــــــــلْــــــــــــتُ دونَ مــــــــــــودِّعِ
*
*
سَـــمُّ الــخِـــيـــاطِ يـــتـــيــْــهُ بـــــي
وأقـــــــــــولُ زادَ تــــــوَسُّـــــــعــــــــي
*
*
وتــضـــيــــقُ بــــي آفــــاقُ فــــجْـــــ
رِ الـــرُّوحِ تَـــحْـــــــتَ الأضْــــلُـــــــعِ
*
*
فـــوضــى الـــتَّـــضــــادِ تــجــمَّــعَـــتْ
فــي عـــمـْــــقِ عُـــمْــــقِ تــمــــزُّعــــي
*
*
مـــــلــــيـــــونُ آهٍ فـــــي فَــــــمـــــــــي
حُــــبِـــسَـــــتْ بــبـــاطـــنِ أذْرُعـــــي
*
*
وألـــــــفُ ألـــــــفِ حـــــــكـــــايــــــةٍ
ســــــارتْ بـــعَـــكْـــسِ تـــوقُّـــعــــــي
*
*
يـــا روحَ روحـــــــي راحــــــةُ الْــــ
أَيَّــــــامِ خـــانَــــتْ مَـــطْـــمَـــعــــي
*
*
مـــا دامَ حـــزْنُـــــكِ غَـــاصِــــبَــــاً
ذوبــــي بـــــهِ واسْــــتَــمْـــتِـــعـــــي
*
*
الــحــــزنُ شـــيْـــطــــانُ الْـــعــفــــا
فِ أقولُ لا تَــــتَــــورَّعــــي؟!
*
*
كـــمْ جـــــاءَ فـــجْـــرُكِ خَـــاطِــبَـاً
فـــصـــرخْــتُ لا تَـــتَــمَـــنَّــــعـــــي
*
*
لـــكـــــنَّ حــلْــمَــــكِ يــابـــسُ الـرْ
رُؤيــا عـــقـــــيـــــمٌ فـــاقْـــنَـــعــــي
*
*
ولـْــنَـــــقْـــتَـــســــــمْ أقـــواتــــنــــــا
كــــــلٌّ يـــخـــــبِّـــــئ مـــــا يَــــعـــــي
*
*
مـــعــكِ الـقـلـــيــــلُ مـــنِ الـــرَّجـــا
وكـــــثــــيــــــر ُأوجـــــاعٍ مَـــــــعـــــــي
-----------------------
عمار السبئي
قراءة احمد بركات