طريق ُ إلى بيت ِ الله 

كـأنّ الأرضَ كلّها ، بالجبال الراسيات والبيدِ الممسوحات ككف ِّملاك ٍ مُتضرّع ، تصعد بالمدينة ، بأنوارها الوهّاجات مثل ابتسامات أولياء طيّبين وبيوتاتها المطمئنات إلى غدها كصلاة قيام الليل على شاب يظلله الله ، إلي ّ .

طريق ُ إلى بيت ِ الله 
طريق ُ إلى بيت ِ الله 

كـأنّ الأرضَ كلّها ، بالجبال الراسيات والبيدِ الممسوحات ككف ِّملاك ٍ مُتضرّع ، تصعد بالمدينة ، بأنوارها الوهّاجات مثل ابتسامات أولياء طيّبين وبيوتاتها المطمئنات إلى غدها كصلاة قيام الليل على شاب يظلله الله ، إلي ّ .

بل السماء التي رأيت ُ فيها ما لا يُرى ، من نافذة الطائرة ، تهبط بي إليها . يا إلهي ..إذ حطّتْ بي الأرض هنا ، وفُتّح الباب ليلج إليها قاطنوها وزائروها تاركين خلفهم روائح الأبدية تمخرنفَسي . وخرجت ُبعد لأيٍ على المضيف ِ ، برئتي ّ الكتيمتين بسعال غلاب ، إلى حافة درج الطائرة من عل ٍ ، وأنا الماضي بي مع من هو مثلي إلى جدة . 

.وقوفا ً أعانق ُ هذا الهواءَ . الهواء الذي مسّني بالرضا 
بتسابيح أفئدة ٍ لملائكة ٍ أوّلين َ رأيت ُ ابتساماتهم تنحني لضراعتي َ الساجدة 
بريح الحبيب الذي لا أحب ُّسواه ُ سوى كي أحب َّ سواه ُ كما شاء لي بالذي شاء َ لي .
بشذى آله آمنين بما جاء تحت عباءته ، يرفعون بأوصافهم درجات ٍ على الكائنات المحبّين والعارفين بِعِتْرةِ سرِّهم ُ الأوّل ِ، 
بتلفت أنفاس أصحابه يكلأون بما صدَقوه ُالذي صدّقوه به قابضين على جمرة الغيب ِ في سورة ِ المائدة ْ .
لست ُ هذا أنا : كان عمراً على كاهلي وانقضى ...
وكدت ُ أدب ُّ الصوت : " لا تقتلعونني من هذه الأرض التي أحب ُّ " إذ صُعِّدت ُ في الهواء . الهواء الذي بدا يفسد في رئتي ّ بسعال ٍ يوهن ُ العظم َ مني . يضيق المكان عليّ كشاهدة ٍتحمل ألقاب غيري ، وكذا السماء التي ترفعني على ريحٍ بسلطانٍ شطرَ جدّة . 
وكأنما تلك ليلة ٌ ذات ُ حشر ٍ . فضاء مطار جدة مختلط ٌ علي ّ بروائح من أجناس متعددة ، والمسافات الضئيلات الفاصلات بين الآدميين تختصرها لغات ُ ألسنة ٍ مختلفة . بشر ٌ بألوان ٍ متنوعة ٍ بتنوع جهات ِ الأرض يلتحف جل الرجال بالأبيض الفائض بالنصاعة ، فيما النساء يرتدين الأسود الفاحم . وهيئ لي أنني سأكون من طلائع الداخلين مطمّئنا ً إليها ، لكني بُخعت ُ على نفسي إذ أدركت ُ ،بانكفاءة عيني الشرطي البدويتين الحادتين كنظرة نسر جافل أن أسوّي الصف ّمع من يقفون – وهم ليسوا كذلك – تحت طائلة الدبلوماسيين ورجال الأعمال، أن الناس متزاحمة ، الرجال في صف ّوالنساء في صف ّ، ليس بألقابها أو بدرجاتها في الطائرة . وكأنهم سواسية كأسنان المشط ، لا فرق لأحد على آخر لا بلسان أو بلون .
ساعة ونيّف تجتاحك َ فيها أرواح مطمئنة ، فيما تدور بك الأرض على قلق . أنت القادم بخطايا أثقل من جبال ، وأعتى من تسونامي . أنطر ، وجوه مستبشرة الآن تشبه الأحياء بعد تسونامي . لا بد أنها سعت ْ لتحل ضيفة على خالقها تنشد لطفه بها وتتوسل فيض رحمته على موتاها . " صل ّ على النبي يا رجل " ، أصرخ بي في داخلي ، وقد استفاقت بي صور معاصي ّ . أضع يدي على قلبي خشية أن يفر ّ من بين ضلوعي من خوف علي ّ وقد تناسلت ْ في جسدي روائح ما اقترف من آثام . " أصبر ، الله يخليك . أنت في الأرض الحرام " . والله لأحاجج ربي على كرمه الذي لا يحدّ بذنوبي التي لم أعد أطيق معها صبرا . 
كيف لي أن أجمّل َ ما صنعت ْ بي يداي َ 
أنا من خلا بالمعاصي لأكمل َ فيها رضاي َ 
لماذا أصدّق ُ أني َ ما زلت ُ حيا ً ، وكنت ُ على غفلة ٍ قاتلي بخطاياي َ
يا خالقي ! كن لطيفا ً كما شئتَ ، أو شئت ُ ، بي .لأعود جميلا ً كما تشتهي في مراياي َ

وكما لو أن شيخا ً شاميا ً مُحرِما ً لكزني بكلمة طيبة : " ياالله ، أخي " لأعبر دوري إلى شرطي الجوازات . وتملّكتْ مني صور القتل عابرة الحدود بدمويتها من سوريا . " أحب تلك البلاد يا إلهي التي عشتها نفسا ً نفساً وحجراً حجراً وبيتا ً بيتا ً وبشراً بشراً ، فابعدها عن شرّ أولاد الحرام . قادر ياكريم " ، ناجيت ُفي نفسي . عبرتُ موطوء بما يجري بي إلى مستقر لا طاقة لنفسي به ، مأخوذا ً بما بي من هواجس وخطايا و أدعية ووصايا .. وكما لو أن رجل الأمن لم يأنس لي ، ولعله أحس بثقل فكرتي التي ضاقت بي علي ّ . 
" خل ّ وجهك َ قدام الكاميرا " كزّ على كلماته يائسا ً من قلة حيلته معي . وأردت ُ أن أقول له " ليس هذا وجهي الذي كان في مراياي َ . أريد أن أخلعه بخطاياه ، فأنا في الأرض المقدسة " .
وكأنما هاء له أنني أعبث ُ بملامحي القديمة ، وأسل ّ نفسي من بين أصابعي . " حط أصابعك هكذا لنطبع بصماتك " قال بلهجة نافرة . وقلت : " كيف " . وتنفس على ثقلٍ مني ، وغادرتُه بأنفاس ثقيلة ، فيما ظلت سحنته البدوية تلطخ عيني ّ بمزاياها الغلابة . 
وإذ عبر بي الزمان ، على غفلة مني ، أكثر من ساعة ، وما أدراك ما الساعة هنا ؟ ، فقد جاءني خبر متاعي الذي تأخرت عن استقباله على دولاب الأمتعة المتحرك ، إذ سألت ُ عنه رجل بوليس ، بأنه مركون في زاوية على مقربة من المخرج .المتاع يحرس نفسه هنا مطمئنا ً . ولم ينتظركلماتي لتشكره ـ فقد هب ّ عاكفا ً على مساعدة آخرين ، تائهين في أنفسهم مثلي ، وقد تعلّقت ْ جوارحهم مثلي بحبل الله هنا في هذه الأرض التي لاتشبه إلاها .
وعلى حين ِ استفاقتي المفاجئة على شعوري بوحدتي ، تذكّرت ُ أن على أحد ٍ ما أن ينتظرني . ولا بد أنه حمل اسمي على لوحة عند سلّم الطائرة ولم انتبه . وربما طارد نفسه ليلحق بي عند مخرج القادمين ولم ألتفت لاسمي مرفوعا ً بين الأسماء المكتوبة بألوان ولغات مختلفة . فـأنا الآن في شُغُل ٍ عما هو ليس في نفسي . نفسي التي كانت أمّارة باقتفاء المعاصي واللهاث خلف الخطايا بخطى حثيثة . وهنا كل ّ يمضي إلى شأنه , وكأن الأرض التي تدور بهم تعصمهم من الآثام . الآثام التي تمر ّ بي في كل لحظة في شوارع موسكو أو مقاهيها . في كل مكان فيها ، بالغوايات على أشدها حيث يناديك جسد المرأة بالرغبة الأعتى لحرث مكين . النسوة هنا موشحات بسواد يخفي مفاتنهن بما لا يطاق مع الفتنة صبراً ، فيما الرجال منكفئين على أبصارهم غاضين الطرف ، وكأنهم في حضرة ملكة أو ملاك . وعلى خلسة مني ، انطفأ الهاتف النقال . صار أسود كثيابهن . أعمى مثل قلب على خطيئة أبدية . أحتاج وصلة كهرباء . طلبتها ، فمدني بها صاحب مكتب لإيجار السيارات . أتأمل الهواء العابق بعطور مختلطة أشدها العطر و المسك الهاب ّ من أجساد المُحرمين ربما . بدا لي جافا ً وأنا المعتادعلى رطوبة بلد الصقيع منذ أكثر من عشرين عاما ً منفيا ً في ّ دون عنوان يُذكرُ أو يُذكِّر بي . وإذ أردت ُ الإتصال بمن عليه استقبالي ، أدركني صوت من الهاتف ناطق بالروسية : " عذراً لا يمكنك َ الإتصال ..." . لكن علي ّ الإتصال ليعثر علي ّ . ولأنه لم يرني قط ، فلن يعرفني حتى وإن عثر بي . وقبل أن أكمل جملتي شارحاً مفسّراً مد صاحب المكتب يده بهاتفه ، وانبسطت ابتسامة كريمة على وجهه . وجاءني فيصل باشا ً . وبلهجة معتذرة ، لصرامتها بدت مؤنبة ، ذكر أنه انتظرني بيافطة حملت اسمي على باب الطائرة ، وإذ لم آته ، انتظرني بها عند مخرج القادمين ، ثم أشهد السائق على هذا . ولم أقل له أنني كنت ُ في برزخ غير هذا . 
للأرض هذي الذي للأرض تلكَ . مدى
رب ّ لطيف إذا ناجيت صرت صدى
فاحمل خطاياك مثلي وائْتهِ وجلاً
منه ومنها تجدك َ غير َ ذا .. أحدا
تجري إلى مستقر ٍ لا صراط له ُ
إلاه ُ. كدت ُ أصيرُ لي هنا أبدا 
تاهت بي الروح حتى لم أجد سكنا ً
فيها سواها . لعلي دونها زبدا 
كأنما جسدي في عالمي قفصي 
أطيرُ منه به فلا أُرى جسدا
يا سيدي بك َ مني أحتمي . لكأنْ
وجدتُني لا أبا ً أرى ولا ولدا
دارت ْ بي الأرض حتى خِلْت ُ معصيتي 
ناءت بها فُلُك ٌ وأثقلت ْ أُحُدا 
هذي خطاياي َ دوني . عل َّ تغفر ُ لي 
إن شئت َ ، أو شئت َ عذبني فما ً ويدا
فما علي ّ وأنت َ خالقي وأنا
عبدك َ مذ جيء بي إلاك َ ما عبدا .

وأفقت ُ على جدة . مضيئة بألوان شتى من السماء وفي الأرض أيضا ً . وكأن العمارات ، العمودية منها والأفقية ، محروسة ببيوت الله ، العتيقة منها والجديدة ، التي تتخللها كتكبيرة في صلاة . جدة منشغلة بذاتها كما بدت بعد منتصف ليلة الجمعة . تسهر وحدها بمن فيها ومعهم وسط هذه الصحراء المحيقة . ممتدة كأغنية على عاشق . السيارات تحمل كائنات متسعة سحناتها من فرح ما ، والمارة يتجاذبون الليل بإشارات أياد كأنها تطل على أفق آخر . وكأن فيصل كرّر ترحيبه بي ، بعينين برّاقتين كعيني نسر ٍ محلّق زهواً . وتذكّرت الملك فيصل رحمه الله . لماذا لم يصفه أحد بثالث أثنين : بطلي التحرير في حرب 1973،  . 
يا إلهي . أنا اليوم ضيفك َ في أرضك َ الطاهرة ْ
إحمنا من لهاث الطغاة ِ العتيدين َ فوق أسرّة ِ نسوتنا الطاهرةْ
دمنا من جنازير دبّاباتهم . وشواهدَنا الطاهرةْ
إحمِ فينا بيوتك َ في الأرض من خبثهم باعتصام يدينا بحبلك َوالعروة ِ الطاهرة ْ
إحمنا إذ يسوؤون سوء العذاب تجمّل َ أحفادنا بالذي يتدفّق ُ في ماء ِ أصلابنا الطاهرة ْ
يا إلهي بحق ّ نبيّك َ ظلّل ْ براءة َ أنفسنا من ضلالتهم بسلام ِ عباءته ِ الطاهرة ْ
وكأن ّالمدينة كلها دخلت بي غرفتي في الفندق . أنا الذي لا أنام عادة إلا لماما ً مثل أنوارها يأخذني جسدي إلى حيلته في التفكر بالفراغ . لا فراغ حولي إلا المكان الذي يتسع مثلي لسجادة الصلاة التي تكاد تناديني و تناديه معي لنملأ الروح ضراعة وقابلية على التروّض في حضرة رب ّ البيت ، حيث ُ يناديني ضيفا ً عليه بين يديه . الله أكبر . يا للروح ترق ّ لذاتها على ذاتها إذ يصعد صوت آذان الفجر سماء المدينة . تترقرق العين بدمعة كبيرة ، ربما دمعتان ، وتنسل ّ الدموع واصلة عيني ّ بالأرض على خلسة ٍ من نفسي . وكـأن 
الأذن لا تسمع إلا صوت الله ، وكأن العين لا تبصر إلا قلبي تائهاً في ملكوت الله ، وكأن يدي لا تدل ّ علي ّ إلا لأراني ساجدا ً بضراعة تأخذني إلى اللا أين ، واللا هناك ، واللا هنا ...
وأفقتُ على جسدي خال ٍ مما عهدتُه ُ عليه أو به . قيّما ً على أعضاء مستيقظة ٍ ، وقد كان وهنا ً به العظم يستجدي دولة قهوة كاملة الأوصاف وبضع سجائر أو بعض أو كل ّ في أحايين لينهض من ظله النعس كهرة منتصف فبراير . لا أصدّق ُ ما بي . تمتد يدي إلى الهاتف . صوت قريب إلى قلبي منذ أكثر من عقد
، لم أر صاحبه . حسناً يا أبو ثامر ، أنتظرك . العناق الطويل وقوفا ً ، السلام الطيّب البسّام ، هذا الوجه "الأسمر كرغيف " ، العينان الوهاجتان بما يغيث من الفتنة : عبد الفتاح إمام ، سكرتير وزير الثقافة والإعلام . لم تأخذك السنين بعيدا ً عنك كما عهدتك مطلع تسعينات القرن الماضي ، يا صاحِ . الشيب ليس دالاً على عبور السنين على أجسادنا . لكن للعمر أحيانا ً لغة لا نحفظها إلا أذا علمناه أسماءنا . هكذا نحن يا صاح ِ . تخيّل ، أنا غير ذاك ، لكنني لا أزال كالبحر الميت عصياً على أن يدفنني أعدائي أو حسّادي أو كارهي الساعة التي ولدتُ بها . وأراني الذي لم أر في مدينة تبدو عذراء للناظرين . الشمس خلف نافذة السيارة المُلّطفة بهواء ينعش الخلايا ، لكنه يستفز قصباتي الملتهبات على سعال أكتمه بين حين وآخر . يقرأ لي المدينة كعاشق . الساحات المزينة بمفردات وأسماء التراث : الجرار و المصابيح القديمة والجِمال .. تتزاوج مع أشكال المعمارية الصاخبة بحداثة العمارات الشاهقة و الفيلات الفارهة . وكدت ُ أصاب ُ بزلزلة إذ أخبرني بأنني معه سأركب ُ بحر جدة . " أخاف البحر يا عبد الفتاح . مرّتان كاد يطمرني في جوفه . البحر المتوسط بين مدينة طرطوس وجزيرة أرواد كاد يغرق بي لولا لطف الله . لا أدري كم من الوقت مرّ بي وأنا تحت خبط أجنحة النوارس يعلو ويهبط بي الموج تحت مطر ٍ مفاجىء ضجر، حتى رماني على صخور الميناء لا حيلة ولا قوة لي إلا صراخ استعدته بعد لأي ّ . كان هذا في خاتمة سبعينات القرن الماضي . والبحر الأسود ، في مطلع تسعيناته ، على مبعدة من شطآن يالطا الأكرانية كاد يأخذني إلا ما ليس لي به علم بعيدا ً عن الأرض التي خارج جوفه ، لولا عناية الله بحسنة دعائي ودعاء آلي لي " . أخاف البحر شابا ً وكهلا ً ومابينهما ، وكنت صبيا ً أمتطي أمواجه كمن يروّض مهرة غجرية . صدقت ُ بقولة أمي : " من لا يخاف البحر لا يخاف الرب " . لكنه البحر الأحمر هنا . لم يمسني بسوء إذ عانقته وقد لفني بذراعيه في دبي ومصر . وليكن ، أن أغرق هنا يا صاح . إنها الأرض الطاهرة ، والميتة فيها حلم من هو مثلي غارقا ً في ذنوبه إلى يوم دين . وجئنا قارب أخيه . وكان أخوه مثله عاجّا ً بسلامات وابتسامات وهابة . الشمس ، إذ تميل بنا مع البحر المتموّج ، لا تشبه سواها ، والهواء ، والماء ، وصاحبي ّ وأنا ، 
والسماء . القصور التي علت ْ جيوب البحر تحاصره بجمالها . لهما إيقاعان بهيبتين متناغمتين بصمت ِ قيلولة ما بعد صلاة الجمعة . وقدت ُ المركب على موج يداعبني ، فيما كان شباب يعبثون بالبحر على دراجات مائية ويطرشون الفضاء فيما بينهم بالماء الأبيض كفسحة بين شعاعين صباحيين .
لم يغادرني البحر ، حتى وأنا آمنا ً أتلذذ بأكل " الكبسة " في بيت صاحبي الآمن بوداعة عائلته الطيبة ، وملائكية حلول بذوره – أطفاله الجمليلين ، الآنسين بطفولتهم كشمس في دفتر رسمٍ طفليٍّ ، أبدا ً تبقى مبتسمة دافئة ، في قلبي . السكينة كلها قدِمت ْ في ملامح أخيه حسن . يسمونه الدرويش : فروح الرجل معلقة بخالقها . فكلما ضاق نَفَسُهُ بنفسه حملها معتمرا ً أو حاجّا ً إلى بيته الكريم . واتفقنا أن يأخذ بيدي إليه ، أنا الغريب ُ ...
المساء هنا لا تنأى عنه شمس يومه . لهّاب ٌ هذا الهواء ُ ، لكن رئتي ّ لا تنفران ِ بما فيهما بسعال ٍ جاف ٍ آخيتُه ُ . 
الطريق إلى بيت الدكتور عبد العزيز خوجة ، وزير الثقافة والإعلام ، أجمل ما في المدينة وأطولها . يا إلهي ، كم من الحنين الغلاب لأدرك َ أن له فِيّ ما لأحب ِّ خلقك َ في ّ . عشرون عاما ً إلا قليلا ً ، وتخصّنا بما يجعلنا أعلى من قامتينا بين أترابنا : حبّك َ و السفر في قصيدة لم تكتب بعد . وحّدنا الشعر ذاتَ صقيعٍ في موسكو ، وفرّقتنا صحارى المسافات . الدبلوماسي ّ الشاعر ، أو الشاعر الدبلوماسي ّ . وكأنه مؤيّد بجند من عنده ، فعل للمملكة والعرب والإسلام في روسيا ، ما عجزت عنه الأمّتان الأمتان . حجة له في الأرض تلك تظل ، وفي السماء . فتح موسكو بالدبلوماسية والشعر والذِكر الطيّب ، كما فعل بسواها من قبل ومن بعد . أجمل ما فيه هو ما لم تكتشفه فيه ، لكنه ينكشف فيك بعد أن تقرأه أو تسمعه أو تقع في مرمى عينيه المفتوحتين على أفق ٍ بعيد خال ٍ مما هو دنيوي ّ . صوفية الكلمة وسِلم ُ الروح : تلك أسماؤه وأوصافه كاملة . 
من قصره ، الهادئ الهانئ كتلويحة عاشق ٍ ، خرج علينا بالأبيض ، ماداً يدا ً بيضاء من غير سوء ، وسلامات وعناقات بيضاء ، وكلمات وابتسامات بيضاء . وأخذنا الشعر إلى آلائه ، وأغشانا الوجد في أسمائه . 
وأدرك روحي القلقة بما يسكن صوته من طمأنينة : " إعتمر ْ ، تغسل روحك من جديد " . قلت ُ : " كم مرّة دعيت ُ ونويت ُ ، لكن .." ، وأشاح بكلماته عن لغو : " لا يأتي بيت الله إلا من يناديه سبحانه . عليك بالبيت " . ولم أقل ْ له ولإمام معه " أعرف أن رحمة الله واسعة ، لكن معاصيّ تحتاج عمرات وحِجّات إلى يوم دين " . 
ولم أنم ليلتها حتى استفقت ُ على هاتف عبد الفتاح إمام في الضحى . " نوينا ؟ " . – " انتكلنا على الله " . 
ويأتيني صوته بعد الظهر : -"بعد صلاة المغرب ، نصلي إن شاء الله العشاء في الحرم " . – " إن شاء الله " . 
وبعد العصر : - " يعني ألبس ثياب الإحرام ؟ . إذا لبستها لازم أحرِم ـ وإلا فدية . ذبيحة .. " . – " طبعا ً . لكن ، أنا ما عارف ألبسها " . 
ولم يفد شرحه لي ، وللسائق الذي ناديت ُ لعون ٍ من بعدي ، طويلا ً ، حتى ألهمنا الله ، وأُلبِست ُ ثوب الإحرام . 
يا الله ! . كأنني أخف ّ علي ّ الآن من خوفي علي ّ من قبل ُ . لا أرى ، وأنا الميمم شطرك َ، ظلي . فيما روحي مشدودة إلى هناكَ . حيث ُ بيتُك َ آوي إليه غريبا ً عني ، وتائها ً في ّ ، ومشفقا ً بي . 
لبّيك . لبّيك َ في طيني وفي مائي بما تعلّم من غيب ٍ وأسماء ِ
بما يكذّب ُ من أعمت ْ بصيرتُهُ الذي أريت َ من البلوى ..وآلاءِ
يا سر َّ ما لم يكنْ إلا لنقرأ : كُن وعِلم َ ما كان من موت ٍ وإحياءِ
إني اشتعلتُ بشوقي . شاب بي جسدي وأوهنت بي الخطايا عظم َ أجزائي
وأستحي منكَ إذ أدعوك َ . ذاك َفمي جفّت ْ به صحُفي .وذي يدي رائي
بي لم أجدْ سقمي فهل أطوف ُ به حتى أصدّق َ أنّي ظل ّ بلوائي 
إياك َ أعبدُ بي . ناجيت ُ ذاتك َ أمْ دعوتَني لأرى لُطفي بإيائي ؟
فما يُعذبِّني منّي أعوذ به برحمتيك َ: قريبا ً منك َ أم نائي 
فيا رحيم ُ، ويا رحمان ُ أقسم ُ لن أعود َ دونك َ مبخوعا ً بإقصائي 
فذاك َ وعدك َ لي حقا ً .فحَق َّ إذن ْ لي أن أناديك َ في سرّي ونجوائي .

لبيك َ . هو ذا الطريق ُ إلى مكة . صراطي في دنيائي .