الأمير البائس - قصة صغيرة
جاء الى الدنيا فوجد نفسه يتيما وحيد امه. اتخيلها وهي تعكف على تعليمه والاعتناء بمظهره. يمضي ليلعب مع ابناء عمومته ولكنهم يصرون على تهميشه
الامير البائس.
جاء الى الدنيا فوجد نفسه يتيما وحيد امه. اتخيلها وهي تعكف على تعليمه والاعتناء بمظهره. يمضي ليلعب مع ابناء عمومته ولكنهم يصرون على تهميشه واستصغار شانه. فيعود حزينا. وتقرا الارملة في عيني وحيدها وجعا وبؤسا واحساسا بالدونية بين اترابه وابناء عمومته. فتاخذه الى صدرها . هي تعلم كم يؤثر غياب الاب في تشكيل شخصية الابناء. ولكنها لا تملك ازاء القدر ما يغيره او يستعيد الراحل الذي مضى وترك لها هذا الوحيد الذي يلوذ بالصمت طوال الوقت.
اعتنت به وجلبت له افضل المعلمين. فابناء العمومة لا يبخلون بالمال. ولكنهم في النهايه يوثرون ابناءهم على هذا اليتيم . هو امير مع وقف التنفيذ. وهي ام امير ولكنها في نظر القبيلة ارملة ابن عمهم الذي رحل عن الدنيا باكرا. لها ولابنها الفتات ولهم ولابنائهم الوجاهة والامارة والسلطة والسطوة.
اسمع يابني : لن تستعيد مكانة ابيك بين قومك الا بالسيف والقلم . عليك ان تجتهد لتحتل مكانتك بين قومك.
يستمع الفتى لنصائح امه ولا يبدي رفضا لها او قبولا. ولكن في داخله بركان غضب من التمييز الذي يتعرض له.
كتب اول قصيده شعر في الثامنه من عمره ادهشت معلمه وبعثت السعادة في قلب الارملة فيتيمها يبشر بشاعر وهذا ما يسهل امامه الطريق ليكون ما يجب ان يكون.
لم يحظ كابناء عمومته بمن يدربه على الفروسية والمبارزه.يجلس بعيدا يراقب طقوس المبارزه التي يحظى بها الاتراب من ابناء العمومة. يتراكم في داخله الاحساس بالظلم والتهميش والغضب. يقترب من ساحة التدريب بجسده النحيل ويطلب بادب اليتيم وانكسار الضعيف ان يحظى ببعض التدريب شانه شان اترابه . فتعلو القهقهات والتعليقات المستفزة.
يشب في داخله بركان غضب يكتمه . ويقاوم عبرة حزن وقهر فيقهرها كي لا يرتفع مستوى السخرية والشماتة. فيرق له قلب المدرب ويعطيه فرصته ويعكف على تدريبه في اوقات مسروقة . يجلس الفتى بعد جوله من التدريب ليقرا للمدرب قصيده كتبها عن اليتم . فينبهر الرجل بها ويحس ان الفتى يبشر بشاعر كبير.
تزدحم الكتب في بيت اليتيم . ويحظى ببعض مافي مكتبة ابن عمه الامير. يجلس بادب جم في مجلسه يستمع الى الشعراء واللغوين. ويعود الى البيت يرتب ما تعلمه ويراجعه.
تتسلل الام الى غرفة الفتى فتجده عاكفا على كتبه. ترافقه الى سريره كما هو الحال كل ليلة فتسمع منه ما كان في نهاره وتتجنب الحديث عن اي امر محبط. تزوده بجرعةمن الثقه وتسمع منه اخر ما نظم من القصائد وتطبع على جبينه قبلتها الاخيره وتمضي الى مخدعها تهجس بغد ابنها وما سيؤول اليه حاله. في غابة الامراء والمنافقين من ابناء العمومة في مجلس اميرهم الكبير.
يتجرا الفتى لاول مره على المشاركه في حوار لغوي. فيلفت اليه الانظار. ويدهش الحاضرين ويستفز المنافقين. جرعة جديده من الثقة بالنفس يمتلكها الفتى ليحقق ذاته ويتجاوز يتمه.
يبرع في المبارزة وركوب الخيل. ويمتلك فرسه الاولى وسيفه الاول . ويعتني بهما كما يعتني بكتبه وتحفه دعوات الام الارملة التي تسرها او تعلنها. وفي خاطره امر واحد هو ان يثبت للجميع ان هذا اليتيم سيكون له شان كبير.
لم يبلغ السادسة عشرة عندما اندفع بسيفه وفرسه نحو ساحة النفير. جزعت الارملة ولكنها لم تحل بينه وبين ما يريد فكتمت خوفها وكثفت دعواتها ورجاءها ان يعود وحيدها مع قومه منتصرا.
نظرات الاتراب الشباب لليتيم فيها دهشة واستغراب. كيف يجرؤ وماذا يملك من ادوات الفروسيه ليشارك في حرب طاحنة. ولكنه يتجاهل نظراتهم ويصر على المضي ليؤكد خيبتهم . هم يملكون ما يملك ولكنه يتفوق عليهم بان احساسه باليتم والتهميش حافز لا يملكونه.
كانت معركته الاولى وانتصاره الاول. ينصرف الاتراب نحو اللهو والعبث . وينصرف الى كتبه واشعاره .ويصطحب فرسه يوميا في ساعات العصر ليكتشف اقرب الثغور ويسجل في ذاكرته ما راى من فجوات الاعداء ويرصد بعينه المجرده استعدادهم وعبثهم. فيختزن في ذاكرته رصيدا من المعلومات التي اذهلت الامير الكبير. عند المعركه الثانية.
احس الامير بانه ازاء فارس مبشر وشاعر كبير . قربه وآثره على الاتراب واعتد به وسمع منه وقربه في مجلسه.
كانت الارملة تحلم بعروس لولدها .ولكنها وضعت امامها خريطة القبيلة ووجدت ان احدا منهم لن يقبل بالامير اليتيم وكلهم يؤثرون ابناء الامراء النافذين . لم تدر ان فتاها قد وقع في حب فتاة ملكت عليه قلبه وعبثت بروحه . فبدا عليه القلق والتوتر والنحول. كان يلوذ
بغرفته فيجهش وتصعب عليه نفسه وهو يرى فروسيته تنهار امام معشوقة لعوب. لم يحظ.منها بغير العبث . ولكنا حظينا منها باجمل واعذب القصائد .
اراك عصي الدمع شيمتك الصبر
اما للهوى نهي عليك. ولا امر.
وقوع الامير اليتيم في الاسر في معركته الثالثة يعطيه وقتا كافيا لاستعراض محطات عمره. كفاح طويل من اجل العلم واثبات للذات بفروسية اودت به الى هذا السجن الحصين . وابناء عمومة لم يفكروا بافتدائه. يكسره الجحود ويهزمه العشق . وفي سجنه يعترف .
نعم انا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر.
ولكنه بعد ياس واخفاقات تقتحمه موجات الحزن فيشارك اليمام نواحه
اقول وقد ناحت بقربي حمامة
ايا جارتا لو تعلمين بحالي
معاذ الهوى ماذقت طارقة النوى
ولا خطرت منك الهموم ببال
ينهار الفتى . وتفقد الارملة الامل باستعادة وحيدها. وتفقد مع هذا كله بعض بصرها وكرامتها وهي ترجو ابناء العمومة افتداء وحيدها . ولكن المنافقين يعبثون بعقل ولي الامر . فيؤلفون القصص على الاسير القابع في قلعة حصينة. ويتهمونه بالطمع للسيطرة على حكم القبيلة.
خسر الامير في ميدان العشق وربحنا اجمل القصائد . هزمته فتاة لعوب هي وقور بحكم العادات ولكنها مثل المهر الغاضب لا تمكنه من التواصل ليبرد قلبه ويثمر عشقه.
وقور وريعان الصبا يستفزها
فتارن احيانا كما ارن المهر.
وخذله ابناء العمومة وتركوه نهبا للهواجس سجينا حتى نحل جسده وذبلت روحه. وكان طوال الوقت يسترجع محطات يتمه .فقد ادرك متاخرا ان اليتم يكسر الامير والفقير.وان ماساته تكمن في هذا اليتم. فهو امير ولكنه بائس . وهو عاشق ولكنه خسر في ميدان العشق.وربحنا اجمل الشعر الذي حضر بعد قرون ليصاغ اغان والحانا عذبة.
د. احمد عرفات الضاوي