من وراء الكمامة
الوقت ضحى ، الشوارع خالية من الناس ، والسيارات العابرة قليلة ، طاولتان على الرصيف أمام المطعم الشعبي ، واحدة لي والأخرى شاغرة ،انا اول الزبائن ربما لاني نمت جائعا في ليلة البارحة

الوقت ضحى ، الشوارع خالية من الناس ، والسيارات العابرة قليلة ، طاولتان على الرصيف أمام المطعم الشعبي ، واحدة لي والأخرى شاغرة ،انا اول الزبائن ربما لاني نمت جائعا في ليلة البارحة ، شاب في مقتبل العمر يدير المكان ويحاول جاهدا أن يحدث حركة ويقنع نفسه بأن الأمور على مايرام ، وأن الكورونا لن تحول بينه وبين الرزق . يبدو أنه لا يملك الذائقة الملائمة في اختيار الاغاني الصباحية الملائمة. ولا يعرف القواسم المشتركة بين الأجيال ينطلق صوت طوني حنا حداي حدي غزال الحي ... ثم اسرع نحوي قبل أن ينتابني الملل ْوضع أمامي قائمة الطعام لاختار منها ، وانا من عادتي أن احدد ما اريد من طعام قبل أن أجلس على الطاولة . قلت له بطريقة ودودة ( والله يا عمي مشتهي فتة حمص) . رد بأدب فطري على طريقة السوريين : مو على عيني؟
تلهيت بهاتفي لاقتل الوقت ، ففي زمن الكورونا الزمن كسول يتثاءب ويتمطى ، والدهشة في هذه الأيام قليلة ، وكل فعل لا يعدو أن يكون روتينا لتمرير الوقت . كدت اطلب منه أن يغلق على طوني واطلب فيروز ، ولكني ترددت لان الأشياء كلها باتت سواء ، ساملأ معدتي وامضي ففي زمن الكورونا تتداخل المشاعر والاذواق وتصبح الفتة مثل الفلافل وفيروز مثل طوني حنا والصباح ثقيل مثل المساء .
تفنن الشاب بصحن الفتة وكان كريما في إعداد صحن المقبلات الذي تعددت فيه الالوان فاستحوذ على عيني قبل معدتي . وقبل أن امد يدي حضر زبون منحني الظهر ، يتوكأ على عصا ، يلبس ثوبا ابيض ويعتمر كوفية بيضاء وعقالا ، اسند عكازته على الجدار وتحرر فورا من كمامته ، أما انا فانزلتها تحت ذقني وبدات بتناول الفتة ، ومع كل لقمة اقارنها بفتة الكلحة وأبو جبارة في عمان ، ولم أجد بينهما قاسما مشتركا سوى اني أتناول الفتة التي أحبها واشتهيها بين الحين والآخر ، كان الرجل يحدق بي وعندما تلتقي عيوننا يتجه ببصره تارة الى واجهة المحل الزجاجية وطورا نحو عكازه ، في نظراته أسئلة ، وفي سلوكه غرابة وفضول كبير ، وفجأة قام الرجل واتجه إلى طاولتي وسالني : الم تعرفني ؟ توقفت عن الاكل ورحبت به وطلبت منه الجلوس ، فاستعاد عكازته وكمامته وشاركني الطاولة التي أجلس عليها . ثم عاود السؤال مرة أخرى ، فاستحيت أن أنكره واستعنت بدبلوماسيتي ، اسف الذاكرة مزدحمة وما عادت تقوى على الاستدعاء والتمييز ، قال : اما انا اعرفك واتذكرك ، انت لم تفقد ملامحك منذ عرفتك قبل أربعين عاما . قال بثقة عالية : الست فلان؟؟ قلت : اي والله انا فلان ، أعذرني لاني لم أعرفك وساعدني لاتذكرك؟ قال: انا اعذرك لان ملامحي قد تغيرت وعبث المرض بجسدي على مدار سنوات طويلة . ساعطيك بعض القرائن . لقد عملنا معا في مكان واحد في الأردن، في جبل الحسين ، زاد احراجي وخجلي لاني لم أتمكن من التذكر ؛ فتعللت بأنه ربما كان عملنا معا لمدة قصيرة ، قال : هي ستة شهور ثم غادرت المكان إلى الغربة وادمنتها وصرت اليوم وحيدا ، فقد أصبح العش خاليا طار الاولاد والبنات ورحلت رفيقة العمر ، وها انا وحيد كما بدأت ، استرسل الرجل وكانه بحاجة ان يبث مافي صدره من شجون ، وتوقفت انا عن الاكل واصغيت بكل حواسي للرجل ، شكا لي من ازدحام مواعيد ادويته ومن احساسه القاتل بالفراغ ، وقال وكانه يكلم نفسه بعد أن اشاح بوجهه عني ، قبل أربعين سنة كنت استغرب كيف يمرض الناس ويذهبون إلى الطبيب ، بل كنت احاول ان ابكي فلا استطيع وبخاصة في اللحظات الحزينة ، ولكني اليوم ابكي عندما أرى ولدا يعانق اباه أو اما تحتضن ابنها ، اوكلبا هزيلا أو قطة عجفاء ، كانت دموع صديقي القديم في هذه اللحظات تسح على خديه ، فعفت طعامي ، ودفعت صحني إلى الوراء ، وقام الرجل ليعود إلى طاولته فاتكأ على الكرسي وكاد يفقد توازنه ، قلت له : لست وحدك من تعتريه هذه المشاعر ، لقد تكلمت بالنيابة عني وهكذا تكون أواخر المواسم .
د. احمد عرفات الضاوي