من وحي النكسة .
غادرت جنين يوم 23 /8/1967 . كنت متسلحا بالحلم المثالي باني سأعمل واستكمل دراستي الجامعية . ومع هذا الحلم كان في جيبي 35 دينارا
غادرت جنين يوم 23 /8/1967 . كنت متسلحا بالحلم المثالي باني سأعمل واستكمل دراستي الجامعية . ومع هذا الحلم كان في جيبي 35 دينارا منحة من المرحوم ابو وائل العرقاوي ، وكانت حقيبتي كيس قماشي (خريطة ) تحتوي على بلاطيني القليلة الباهتة وقمصاني العتيقة . وفي الكيس قارورة زيت زيتون تم توثيق غطائها حتى لا يسفح محتواها على معابر الخروج ، وعلبة معدنية اودعت امي فيها بعض الزعتر البيتي .
غادرت جنين ضحى ذلك اليوم ، وفي كل متر يبتعد فيها الباص عن جنين يزداد احساسي باليتم ، لقد جربت اليتم التقليدي من قبل ولكن هذا الرحيل اشعرني بيتم اضافي ، فأكثر ما يؤرق اليتيم ان يفتقد الاحساس بالأمان والحماية ، وها انا اليوم اضاعف يتمي في الذهاب الى مكان مجهول ، لا املك خطة وليس لدي بدائل غير المغامرة بالعودة عن طريق التهريب وبخاصة بعد ان اجبرت على توقيع تعهد على الجسر بعدم العودة . كانت الغصص تتوالى وانا ابتعد عن جنين ، استجديت البكاء فلم يسعفني ، في حلقي غصة تتضخم واستقر وجعها في راسي صداعا ، كان معي في الباص رفيق الصبا نضال العرقاوي ، هو يملك خطة ولديه البدائل في حال تراجعت الحظوظ او تمادى الوجع والخذلان ، تعزيت بوجوده الى جانبي في تلك الرحلة ولكن احساسي باني ساتحول الى عبء اضافي عليه زاد من احساسي باليتم وبقيت طوال الرحلة نحو الشرق ارسم سيناريوهات اليتم القادمة بكل تفاصيلها وفق التجارب السابقة .
كانت كل السيناريوهات التي رسمتها ملونة ، ولم اتوقع ان يكون الواقع على الارض سوداويا ، كانت كل مظاهر البؤس تتجلى في الشارع والمقهى والفنادق البائسة ، في كل ركن فلسطينيون من كل فج يبحثون عن خلاصهم في العبور نحو الغرب جلهم من المغتربين الذين فجعوا بالسقوط والهزيمة واصبحوا ايتاما بين يوم وليلة .
كنا نجتمع في الفندق البائس في الزرقاء فنسمع من بعضنا روايات القطيعة واليتم الخاص والعام ، ينقصون ثم يزيدون ، كنت احسب ذلك من خلال عدد الجنبيات التي تشغل الغرف والممرات في الفندق البائس ، قادمون من الخليج والعراق ، عائدون في محاولة لتجاوز حالة اليتم التي فجعوا بها ، حيث لم تكن هناك وسيلة للتواصل غير برنامج كوثر النشاشيبي الاذاعي ، في الوقت الذي لم يكن كل الناس يملكون مذياعا لمتابعة مايحدث لاهلهم واولادهم ، وكان كل امل يشفع بالدعاء المتكرر من الامهات والاباء ، كل الشعب تحول نظره الى السماء ينتظر فرجا او انفراجا ، بؤس في كل ركن وكساد في كل مكان ، التجارة بائرة والعيون زائغة ، والخوف والترقب في كل العيون .
كان علي ان ابحث عن عمل لاسد رمقي بعد ان بدأت صرة نقودي تصغر يوما بعد يوم ، لكن اين وكيف ، لا احد يعرفك لتبثه وجعك ، وان وجدته فلا احد يملك لك حلا .
كان يوما بائسا من ايلول ، جلست على مقهى المشتتين في الزرقاء اتفرس الوجوه لاجد مدخلا لحوار ما لاطرح همي ، كان صاحب المقهى الغزاوي يعرف كل زبائنه ، وطالما سمع قصص شتاتهم وما يسعى كل واحد من أجله في هذا المكان ، كنت اشتري كعكة بقرش واسد بها جوعي مع كوب من الشاي ، وقد تعود صاحبنا الغزاوي على تفاصيلنا الصغيرة ، فكان ياتيني بكوب الشاي بمجرد ان يرى الكعكة في يدي ، لم يكن في خطتي في ذلك اليوم ان اتبلع كعكتي بالشاي اختصارا للنفقات . كنت قد اكلت نصف كعكتي عندما وضع الرجل امامي كاسة الشاي ، ولامني لاني لم أطلب منه ما تعودت على طلبه يوميا ، كان هذا الموقف مدخلا جيدا لي لانفذ خطتي التي رسمتها منذ ايام قليلة .
والله يا ابو معين ماكنت بدي شاي ، فقد وصلت الى الحافة ، وليس امامي غير البحث عن عمل حتى استطيع التوازن.
طيب يا عمي اشرب الشاي ، ولما تخلص بنحكي .
بعد دقائق جلس الى جانبي وسالني كثيرا من الأسئلة، وكانت كل الاجابات توحي باني يتيم بكل معنى الكلمة في هذا المكان ، وكل الآفاق امامي مسدودة ، فقدم لي عرضا لم احلم به ولم يحلم به احد في زمن الكساد ذاك .
هل تعمل معي في تقديم الطلبات واجرتك خمسة وعشرون قرشا في اليوم ؟؟؟
وافقت على الفور وتم الاتفاق ان ابدا منذ صباح اليوم التالي ، وامضيت ليلتي ارسم سيناريوهات العمل ودهشة التجربة الجديدة ، فبهذا العرض ضمنت نفقات اكلي وشربي ، وطمحت ان انام في المقهى بعد ان ابث الطمأنينة والثقة في قلب ابو معين .
بكرت في اليوم التالي ، ولم اتريث لشراء كعكتي الصباحية ، كان المقهى خاليا من رواده ، كان ابو معين في تلك اللحظات قد اشعل بوابيره واطلق العنان لصوت عبد الباسط في تلاوة صباحية تضفي نكهة واملا للأيتام المشردين .
بادرت ومددت يدي لاخذ المكنسة من يده ، كانت تلك المبادرة مني ليشعر الرجل بالامتنان والتفاؤل بالعامل الجديد ، ولكن ابو معين قطب جبينه وشد المكنسة من يدي بقوة ، كان هذا السلوك بالنسبة لي صادما ، تدفق الرجل بعصبية : لماذا كذبت علي ؟ كنت مصدوما من هذا التحول وهذا الاتهام ؟ لم يمهلني كثيرا لافهم ما كان يدور .
ليش ياعمي ما حكيت لي انك معك توجيهي ، والله انا استحي ان تعمل جرسون ، كان الرجل يعبر عن احترامه الشديد لشهادتي ، ولكنه لم يفكر لحظة واحدة بيتمي الطارىء في هذا المكان .
د. احمد عرفات الضاوي .