جذور اللغات - القيء... من بحور العرب على أرض سومر
- العربية هي لغة حسابية، تُحسب فيها الحروف لاستخراج المعاني، وبالتالي فكلماتها ليست معجمية (معاجمية)، أي ليس لها معاني ثابتة، بل قيم معنوية متغيرة يحددها ويحصرها سياق الكلام.
إن ما دفعني لكتابة هذه المقالة هي فقرة قرأتها في كتاب جميل لعبدالمنعم المحجوب يقول فيها شارحاً مراحل تطور الكتابة عند السومريين:
"المرحلة المقطعية: استطاع السومريون في هذه المرحلة اختزال علامات الكتابة المسمارية في اصواتها بغض النظر عن دلالاتها الأصلية. وأحد أقدم الأمثلة على ذلك يعود إلى دور جمدة نصر، حوالي ٢٩٠٠ ق.م، حيث استخدمت العلامة الممثلة للقصب gi لتمثيل معنى: عوّض، أعاد ديْناً، الذي يلفظ gi كذلك. ولعل السبب يعود إلى أن نفس الكلمة كانت تعبر عن الميزان أو عن وحدة من وحدات القياس."
قبل كل شيء لا يسعني إلا أن أعبر عن تقديري للجهد الكبير الذي بذله الكاتب لإخراج كتابه المسمى "ما قبل اللغة - الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية". هذا الكتاب هو حلقة من سلسلة طويلة لباحثين عرب تمردوا على النمط التقليدي في دراسة التاريخ، من أمثال أحمد سوسة وفراس السواح وخزعل الماجدي وغيرهم، الذين التزموا جانب البحث العلمي دون الجنوح نحو التأويل وإسقاط المفاهيم في ما لم يثبت لها من أمكنة. بيد أني لا اتجاهل فضل الباحثين أمثال كمال الصليبي وفاضل الربيعي وغيرهم، فهم وإن كانوا قد وقعوا في حقل التأويل فقد فتحوا أفقاً واسعاً لنقد مزاعم المستشرقين ونوافذ منها نرى ما كان قد خفي عن أعيننا.
ومع أن ما ذكره الكاتب في هذه الفقرة المذكورة لم يكن جديداً عندي، فإن الأمثلة المستخدمة لتوضيح الفكرة أثارت في نفسي سلاسل من المعاني احببت مشاركتها والتوسع في شرح فكرة الكاتب من وجهة نظري الخاصة.
وبعد،
فإن العربية هي لغة حسابية، تُحسب فيها الحروف لاستخراج المعاني، وبالتالي فكلماتها ليست معجمية (معاجمية)، أي ليس لها معاني ثابتة، بل قيم معنوية متغيرة يحددها ويحصرها سياق الكلام.
وإن أعمال جهابذة العرب في سعيهم لحفظ عربيتهم وصونها، تدفع في غالب الأحيان إلى تعجيمها وتحجيمها، أسوة بألسن العجم الذين أحجموا عن إطلاق عنان معانيهم والغوص في بحورها.
وأخطر ما في الأمر مع شيوع التعليم في المدارس هو جنوح مؤسسات التعليم إلى التعجيم، أي باتت المعاجم حواكم للعرب ومن شذ عنها متهم بالكفر والزندقة اللغوية، بيد أن تلك المعاجم، حين وضْعِها، وضعت للعجم لمساعدتهم على التعرب ولم توضع للعاربين لدفعهم نحو التعجم.
وأخطر ما في الأمر أيضاً، ان تصبح محدثات الأمور حواكم على أصولها.. فالقوميات لم تعرف إلا في التاريخ الحديث، ولم تكن على الأرض قومية عربية، ولم يكن العربي هو من ولد لأب عربي، بل كان العربي هو من فصح لسانه فأعرب عما في خلده، حاسباً ما يقول ومحتسباً منه.
وبدوة العروبة ليست إلا بدوة الحساب، يوم أصبح العقل أداة نافعة لصنع الحضارة، يوم ولدت الفراسة فاختزلت مسافات الوعي بما يشبه حساب العدد بالحواسيب في يومنا، مقارناً بحسابه بذهن البشر في غابر الأيام.
وليست ما توصف بأنها فصحى في يومنا إلا سجن حُبس فيه العربي حتى تعجم، لا هي لغة القرآن ولا هي لغة السابقين. قتل فينا حساب الكلام وإدراك معانيه... أفيعقل أن يفسَّرُ القرآن لعربي وهو قد أُنزل عربياً؟
وليست أساطير الأولين إلا الشطط عن حساب كلام قالوه، بعد أن كان كلاماً محسوباً موزوناً بمعانٍ معلومة، فبات فيه خلل الفهم، وتحوَّر عن مقاصده التي قيل إليها.
وقراءة الأعاجم لنصوص أسلافنا لا تولد منها إلا الأساطير، ذلك لأنهم يفتقرون لفهم معطيات الحساب الأولية، ويفتقرون لأدوات حساب تلك المعطيات.
والكلمة عند العجم هي أساس الكلام، وهم عجم لأنهم لا يدركون المكونات الأولية للكلمة، ولا يمتلكون أدوات حسابها.
لتوضيح كل ما سبق وبالمثال، نناقش معنى القصب عربياً وما يرتبط به، دون الادعاء بكمال المثال، فالكمال بعيد المنال عن مقال أو حتى عن كتاب.
وأنا أعتقد أن السومرية كانت لغة مكتوبة وليس لها قراءة محددة، شأنها شأن الصينية، رموزها ذات معان محددة، ولكنها ليست ذات لفظ محدد، بل لكل قارئ لفظه. فالصيني يقرأ الرمز بلفظه ولغته الصينية، والكوري يقرأ ذات الرمز ولكن بلفظه ولغته الكورية. لقد تقدم ظهور الكتابة التصويرية لأن الصورة كانت (ومازالت) مفهومة للجميع، وتأخر ظهور الأبجدية لأن اللفظ ليس مفهوماً للجميع.
وبالتالي فإن قرائتنا للسومرية تعتمد بالدرجة الأولى على قراءة الأكديين لها، بلفظهم الأكدي، وهذا لا يعني بالضرورة عدم وجود قراءات أخرى. ومما يزيد الأمر صعوبة هو تعدد اللهجات في كل اللغات مما يؤدي إلى إختلاف الألفاظ إلى درجة يصعب معها العودة إلى أصول الكلام.
وأعتقد ايضاً، أن العربية (وليس لهجاتها)، هي مثل السومرية، لم تكن يوماً لغة منطوقة، بل لغة تقاس عليها اللهجات وتتوحد فيها. ذلك لأن الإنسان بطبعه يتوخى السهولة ويتجنب الوعورة، والعربية ليست سهلة النطق في عالم تحكمه العجلة لتحقيق الحاجات.
أما اللهجات هي ليست إلا الحل الأمثل لكل قوم، بين دقة الحساب والكلام بالعربية، وبين سهولة التخاطب بالعامية، بحيث لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم.
والمنطق باللهجات يكون سليماً ما دام على القياس العربي، وإن غاب القياس انحدر المنطق وفسد. ومن غاب عنهم القياس باتوا عجماً مع أن لسانهم أصله عربي.
ودخولاً في صلب الموضوع، فكلمة "قصب" (النبات) ليست كلمة أصيلة، لا في العربية ولا في السومرية، بل هي تركيب من معاني أصيلة. ورمز gi السومري بالتأكيد لا يعني القصب، وهذا بالضبط ما يقوله الكاتب، فالرمز نفسه استخدم لل"عوض" أو رد الدين وكذلك للميزان أو كوحدة قياس.
لن أتخم المقالة بشروحات حول ألفاظ الحروف الأبجدية والمبادلات في ما بينها، فهذا مشروح في الكتاب المذكور وغيره. ولسوف أعتمد قراءة رمز gi ب"قي"، أو بحرف القاف بغض النظر عن حركاته، فالحركات تحدث تعديلاً على المعنى دون أن تحدث تغييراً فيه.
يقول المؤلف أن رمز "قي" استخدم للدلالة على الميزان أو وحدة قياس. والميزان يجب أن ننظر إليه كأداة "قياس" للوزن وهذا يبعدنا عن نقاش كلمة ميزان بذاتها.
وكلمة "قياس" تبدأ بحرف القاف، ومنه تأخذ معظم ما تعنيه، وكذلك كلمة "قصبة" التي يمكن صياغتها على شكل (قاس-ب). إن نبات القصب قد سمي بهذا الإسم بسبب استخدامه كأداة لقياس الأراضي لاستقامته وصلابته وخفة وزنه، لهذا فتسميته مستعارة وليست أصيلة، وهو خارج النقاش.
وإن لم يكن هذا كافياً فثمة الكثير مما يدل على القياس في ألفاظ العرب، مثل "قسم" (قاس-م: أي قاس وقطع [قطع=قص]) و"قصد" الشيء (قاس الطريق أو قصّها، أي قطعها نحو مقصده) وال"قوس" الذي تقاس به الدوائر.
وقصّ الشيء (أي قسمه) وقصً الأثر (قصد شيئاً قد ترك وراءه أثراً).. والقصير (كأنه مقسوم أو مقصوص عن شيء)، والإستقصاء هو قصّ الأثر... وروى قصة، كأنه يقيس مسالكها أو يتتبع آثار حوادثها... وهذا كله مما يسهل استنباطه.
أما ما يتعلق بسداد الدين، فالعرب يقولون قضى (ص>ض) دينه أي قاصص فيه والمقاصة بين الشركات هي عملية تبادل الديون وشطبها، والدين يقاس على ما تم استدانته... ومن هذا فرع آخر من الألفاظ مثل قضم الشيء، أي قصمه وقسمه بأسنانه، قضى وقتاً (لأن الوقت مقسم إلى فترات)... والسلسلة تطول إذا ما اجتهدنا في البحث مع إختلاف أشكال القياس. المهم هو أن ندرك أن للقياس أشكال وألوان.
لقد ذكرنا سابقاً أن السومرية لم تكن لغة ذات لفظ محدد، وبالتالي فإن الرمز يدل على فكرة دون لفظ، وإن كان الأكديين أو المستشرقين قد حددوا لفظاً لرمز ما فليس بالضرورة أن تكون قراءتهم هي الوحيدة الممكنة، فهذا الرمز الذي ندرسه وبناء على ما تقدم يجب أن يقرأ بالعربية "قس" وليس "قي"، وهذا ليس إلزاماً فربما قواعد القراءة ستجيز قراءات أخرى في حالات أخرى.
والرمز السومري ذاته يقرأءه المستشرقون بالأكدية "كينوم"، بمعنى حازم، عادل، صادق، مخلص، شرعي... وأرى أن القراءة الصحيحة بالأكدية هي "قينوم" ومنها كلمة "يقين"، والكلمة يجب تقرأ بالعربية "موقن" على وزن مفعل، وهذا معناها بالتمام. فمن الطبيعي أن يدور المستشرق حول المعنى لأن لغته ليس فيها ما يعبر عن الفكرة بدقة وبكلمة واحدة. فالحزم والعدل والصدق والإخلاص والشرعية هي كلها من صفات اليقين. واليقين بالعربية قاطع للشك، والقطع هو القصّ والقسمة بعد قياس، ولا فرق بين أكادية وسومرية أو عربية عند تتبع أصول المعاني.
ولزيادة التأكيد، نأخذ رمزاً سومرياً آخراً يقراءه المستشرقون "كي"، وهو يرمز إلى كلمات أكادية مثل: "أشرُم" - مكان، موقع، "إرشِتوم" - أرض، "ققّارُم" - عقار، "سفلُم" - أسفل. لو صححنا قراءة الرمز إلى "قي"، والقي بالعربية هي الأرض يصبح الكلام أشد وضوحاً. لأن قي-آس مأخوذة اصلاً من تقسيم الأرض... إذن ف"آس" هي ما يختص برسم الحدود، وال"قي" هي قطعة العقار ذات الحدود.
ولتعميم الفكرة أكثر، فال"قي" هي كل ما يبدأ في مكان وينتهي عند مكان آخر ويكون بذلك له حدود وقابلاً للقياس، وهذا ما يجعلنا نتقيأ (قيء) من جوفنا إلى خارج فمنا، فتلك حدود الطعام عندما يخرج قيئاً. والقول هو "قيء" يبدأ من الفم وينتهي عند أذن السامع، والقطار قيء ينطلق من مكان ليصل إلى آخر... والقياس على ذلك يطول.
فقلّة الشيء هي قياس لحجمه، والقلم لأنه مقصوص عن أمه، وتقليم الشجر قصُّ عيدانه. والقطف هو قص الثمار عن امهاتها، والقطم مثله وإنما للبقول ورؤوس الأغصان.
وليس من الصدف أن نروي ال"قصص"، فالريّ يكون للأرض المزروعة وذاكرتنا في رؤوسنا هي أراضٍ، قطع مقصوصة، لها حدود ومزروعة بالذكريات، نرويها لتنمو وتزدهر.
وليحاول القاريء أن يبحث بكلمات مثل القد والقدم والقدر والقائد... وغيرها... هل تحاك على نفس المنوال؟
إن العربية هي لغة الصورة التي محاها الحرف مع مرور الزمن، ولا تُدرَك أسرار اللغة إلا بالعودة إلى صورها الأولى، إلى السومرية.
وهذا بحر واحد من بحور العربية العديدة، بحر القيء مع حروف من ذات الجنس، خضنا غماره، عسى أن نخوض غمار غيره في غير مناسبة... وال"قي" السومرية تسبح في بحور عربية كثيرة، بينها برازخ، لا تبغي بحور منها على بحور.