الحرب على غزة والحقيقة اليهودية

إن المساواة عند الدراسة بين الناتو والصليبية تجعل الأمور أكثر وضوحاً، مشروع واحد متواصل ولكن في ألبسة مختلفة، كلما اهترأ لباس يستبدل بآخر، تختلف الوسائل ولا يختلف الهدف. أما العثمانية واليهودية فهي من الألبسة التي تستبدل.

الحرب على غزة والحقيقة اليهودية

ينقسم المجتمع اليهودي إلى ثلاث فئات، الأشكناز، وهم يهود وسط وشرق أوروبا، والسفارديم، وهم يهود غرب أوروبا أو شبه جزيرة إيبيريا (الأندلس)، والمزراحي، وهم يهود الشرق الأوسط.

بلغت نسبة الأشكناز في القرن الحادي عشر ٣٪ من مجمل اليهود في العالم، وفي تقديرات عام ١٩٣٠ (قبل الهولوكوست) قفزت هذه النسبة إلى ٩٢٪ من مجمل يهود العالم. حاليأ تفوق نسبة تعداد الأشكناز ٨٠٪ من مجمل تعداد اليهود في أنحاء العالم، في حين يختلط الأمر بالنسبة للسفارديم والمزراحي نظراً لإختلاط هؤلاء في أماكن سكنهم بعد طرد السفارديم من بلاد الأندلس، وكثيراً ما يشار للسفارديم والمزراحي على أنهم يهود شرقيين. 

لغة الأشكناز تسمى "إديش" وهي لهجة جرمانية تتخللها مصطلحات دينية ذات جذور كنعانية. ولغة السفارديم تسمى "لادينو" وهي لهجة لاتينية قريبة من الإسبانية تتخللها ايضاً مصطلحات دينية ذات جذور كنعانية، بالإضافة إلى لهجة منها متأثرة بالعربية تسمى "حكيتية".

تقوم اليهودية على أسطورة كتب مقدسة لا يعرف أصلها، تقول الروايات أنها جمعت خلال الحكم الهيلينستي لمصر من نصوص متفرقة وترجمت إلى اليونانية ليعاد ترجمتها فيما بعد من اليونانية إلى لغات عديدة. هذه النصوص تحتوي على روايات لأحداث لم تذكر في كتابات أي من شعوب الشرق الأوسط القديمة، كما لم يعثر الآثاريون على أي أثر يدل عليها. والأهم من ذلك أن الدراسات الجينية الحديثة تثبت عدم انحدار يهود أوروبا عن الشعوب الشامية القديمة.

إن عدم إنسجام الرواية اليهودية مع حقائق الحفريات في كل أنحاء الشرق الأوسط يثير أسئلة كثيرة حول حقيقة تلك الرواية، وأسئلة أكثر أهمية حول الهدف من صناعة تلك الرواية. أما عن حقيقة تلك الرواية فثمة الكثير مما كتب وقيل، وعملياً فقد خرجت تلك الرواية كلياً من المنهج العلمي لدراسة التاريخ، أي أنها أصبحت خارج علم التاريخ وجل ما تطمح إليه هو أن تكون نوعاً من الأدب الشعبي الذي أتخذه البعض ديناً لهم.

إن التزييف لم يقتصر فقط على رواية مدونة في كتب بل تعدى ذلك إلى تزييف الشعب المعني بها، ففي حين تتحدث الرواية عن سلالة انحدرت من عائلة أبوية واحدة أصبحنا اليوم أمام سلالات وشعوب مختلفة جينياً سواء من ناحية النسب الأبوي أو من ناحية الإنتساب للأم.

إن مثل هذا التزييف واسع النطاق لا يمكن أن يكون هكذا بلا هدف، وإن معرفة الهدف منه لا شك يقود إلى إستنباط الحقيقة.

في هذه الأيام يجري إستخدام اليهود من قبل الأنكلوساكسون (حلف الناتو) في حربين عالميتين، أو حرب عالمية واحدة على جبهتين، الأولى في أوكرانيا والأخرى في فلسطين، الأولى تزعم أحقية يهود الخزر بإحياء مملكتهم المزعومة في الدونباس وشبه جزيرة القرم تمهيداً للتوسع نحو القوقاز وصولاً إلى نهر الفولغا، والأخرى تزعم أحقية اليهود بإحياء مملكتهم المزعومة في فلسطين تمهيداً للتوسع بين الفرات والنيل، وفي الحالتين يتلقون كل الدعم من حلف الناتو والنازية. إن السيطرة على هاتين المنطقتين تعني السيطرة على مجمل مفاصل طرق التجارة العالمية، وهنا بيت القصيد.

إن المشترك بين الزعمين هو عدم وجود أثر تاريخي لتبريرهما، من ناحية، ووجود هدف واحد من ورائهما، من ناحية أخرى.

تقول ويكيببديا: "يشير مصطلح «أشكنازي» إلى المستوطنين اليهود الذين أسسوا مجتمعات على طول نهر الراين في ألمانيا الغربية وشمال فرنسا والتي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى. وبمجرد الوصول إلى هناك، قاموا بتكييف التقاليد المنقولة من بابل والأراضي المقدسة وغرب البحر الأبيض المتوسط إلى بيئتهم الجديدة. وتطورت الطقوس الدينية الأشكنازية في مدن مثل ماينتس وفورمس وتروا."

وتقول ايضاً: "في أواخر العصور الوسطى، بسبب الاضطهاد الديني، تحولت غالبية السكان الأشكناز بثبات نحو الشرق الأوروبي، وانتقلت من الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى المناطق التي أصبحت لاحقاً جزءاً من الكومنولث البولندي الليتواني (الذي ضم أجزاء من بيلاروسيا الحالية ولاتفيا وليتوانيا ومولدوفا وبولندا وروسيا وأوكرانيا) .... وتشير التقديرات إلى أن اليهود الأشكناز في القرن الحادي عشر كانوا يشكلون 3% من إجمالي السكان اليهود في العالم، في حين أن التقديرات التي تم إجراؤها عام 1930 (بالقرب من ذروة السكان) كانت تمثل 92% من يهود العالم. مباشرةً قبل الهولوكوست، بلغ عدد اليهود في العالم حوالي 16.7 مليون. وتختلف الأرقام الإحصائية عن التركيبة السكانية المعاصرة لليهود الأشكناز، والتي تتراوح من 10 ملايين إلى 11.2 مليون."

إن هذه القفزة الكبيرة من ٣٪ إلى ٩٢٪ في تعداد الأشكناز لا يمكن أن تكون نتيجة توالد طبيعي ليهود سابقين، والأرجح هو تهويد عدد كبير من الفلاحين الألمان الذين عاشوا ظروفاً مزرية، ينامون في الزرائب مع الدواب ويأكلون فضلات أسيادهم ولم يعلموا لهم تاريخاً. هؤلاء لا يمكن أن يرفضوا عرضاً يمكّنهم من العيش في بيوت بدلاً عن الزرائب مقابل عقيدة يدعون أنهم ورثوها عن الأجداد.

وإن انتشار الأشكناز في شرق أوروبا المحكوم من ألمانيا في ذلك الوقت كان بمثابة حصان طروادة الذي أدخل الأشكناز الي أراضي الإمبراطورية الروسية التي استعادت السيطرة على شرق أوروبا بعد حين.

لقد لعب الألمان المهودين دوراً محورياً في زعزعة استقرار روسيا القيصرية من داخلها حتى تم القضاء عليها، وكان لهم وزناً مرجحاً في قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي وتمكنوا بالفعل بتمويل من الولايات المتحدة الأمريكية من إقامة عدد من المستوطنات للمتهودين في شبه جزيرة القرم.

لقد تمكن ستالين بدهائه الكبير من إقصاء لينين عن الحكم ووضعه تحت إقامة جبرية بحجة مرضه وحاجته للراحة وحتى وفاته، ثم بعد سيطرته على كامل السلطة في الحزب والدولة قام ستالين بإقصاء القيادات المتهودة وصولاً إلى إحباط محاولة إقامة دولة للمتهودين في شبه جزيرة القرم. لا شك أن ستالين الأسيتي الأصل والمولود في جمهورية جورجيا في القوقاز قد تصرف بدافع قومي وطني لأن المشروع الخزري للمتهودين كان من المقرر له أن يزحف لاحقاً نحو مسقط رأسه وصولاً إلى مصب نهر الفولغا في بحر قزوين.

مع أنه بات من الصعب التمييز بين السفارديم والمزراحي، فإن الشكوك تبقى قوية بأصول اليهود العثمانيين لأن السفارديم بعد طردهم من الأندلس استوطنوا في شمال إفريقيا ويصعب تصور هجرة عدداً كبيراً منهم إلى مركز الدولة العثمانية... والأرجح أن هؤلاء اليهود العثمانيين قد تم تهويدهم بنفس الطريقة التي حصلت في ألمانيا لخدمة مشروع إستعماري مشترك بين الإمبراطوريتين الحليفتين الألمانية والعثمانية.

إن أكثر من ١٠ آلاف جندي من المهودين العثمانيين والذين يحملون الجنسيتين، التركية والإسرائيلية، يقاتلون الآن ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.

لقد بدأ تسريب المهودين إلى فلسطين في القرن التاسع عشر، وأقيمت أول مستعمرة لهم بإسم بتاح تكفا في جوار مدينة يافا عام ١٨٧٨، أي خلال الحكم العثماني لفلسطين، وقبل ٤٠ عاماً من زواله... وحتى عام ١٩١٨ أقيمت لهم أكثر من ٥٠ مستعمرة وتجمع على أراضي فلسطين.

لم يكن ذلك نتيجة ضعف الدولة العثمانية في ذلك الوقت كما يدعي البعض، بل نتيجة لمخطط عثماني أنكلوساكسوني مشترك يقضي بزرع جسم غريب بين الشام ومصر ومنع اتحادهما ضد السلطنة العثمانية مرة أخرى كما حدث إبان حملة محمد علي باشا التي تمكن خلالها وبجيوش مصرية شامية من الوصول إلى تخوم القسطنطينية، ولم يردعه عنها إلا تدخل الدول الأوروبية بجيوشها.... أو كما حدث عند إتحاد جيوش الشام ومصر مع الأيوبيين وثم المماليك لدحر الصليبيين.

محمد علي باشا كان يطمح إلى إقامة دولة عربية قوية قادرة على أن تكون أساساً قوياً تقوم عليه دولة الإسلام، وإن فشله عام ١٨٤٠ في تحقيق هذا الهدف كان أساساً لسياسة دولية مازلنا نعيش فصولها حتى الآن. لقد تم الفصل بين مصر والشام بكيان غريب، وهيمنت الحركة الوهابية التي حاربها محمد علي باشا على معظم القدرات العرببة، ومازالت الدول الأوروبية ومعها تركيا الحديثة (حلف الناتو) تتحكم بكل مفاصل العالمين العربي والإسلامي وتمنع قيام كيان عربي أو إسلامي لا يكون تابعاً لها.

وعد بلفور القاضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين لم يكن إلا الحلقة الأخيرة لمشروع تم الإعداد له قبل وقت طويل. وبريطانيا قد تسلمت فلسطين من العثمانيين عام ١٩١٨ دون قتال يذكر وبعد قيام العثمانيين بتجريد الفلسطينيين من كل وسائل الدفاع عن بلادهم. لقد سبق طرح هذا المشروع الإستعماري مرات عديدة قبل وعد بلفور، اهمها إبان غزو نابليون لمصر عام ١٧٩٨، حيث دعا نابليون لإقامة دولة لليهود في فلسطين. الكتابات كثيرة في هذا المجال فلا داعي للتكرار في هذا المقال.

إن الحفر أكثر في تربة التاريخ يقودنا إلى الحروب الصليبية التي تركزت ايضاً على احتلال فلسطين، والمفارقة هنا أن نهوض الدولة العثمانية قد تزامن مع إندحار الحملات الصليبية عن بلاد الشام على يد المماليك، ليتولى العثمانيين فيما بعد مسؤولية القضاء على المماليك تحت رداء الإسلام وإزالة ما تبقى من الخلافة العباسية في مصر بشكل نهائي، ومن ثم إستخدام اليهودية لمتابعة ذات المهمة الصليبية للسيطرة على فلسطين.

لم يقل نتنياهو في زيارتيه الأخيرتين إلى الولايات المتحدة إلا الحقيقة، إن الحرب التي يخوضها كيانه المرتزق هي ليست إلا للدفاع عن مصالح الغرب في الشرق الأوسط، ولا شيء يمكن أن يكون أوضح من الخارطة الخضراء التي رفعها النتن في الأمم المتحدة والتي يظهر عليها السهم الأحمر في دلالة على مشروع بايدن التجاري بين الهند وأوروبا مروراً ببلاد العرب من الإمارات العربية وحتى حيفا. هذه هي حقيقة الحروب في الشرق الأوسط.

إن المساواة عند الدراسة بين الناتو والصليبية تجعل الأمور أكثر وضوحاً، مشروع واحد متواصل ولكن في ألبسة مختلفة، كلما اهترأ لباس يستبدل بآخر، تختلف الوسائل ولا يختلف الهدف. أما العثمانية واليهودية فهي من الألبسة التي تستبدل.

إن الحرب الدائرة الآن في غزة والضفة الغربية وفي لبنان بمساندة من المحور السوري العراقي اليمني والإيراني للمقاومة الفلسطينية اللبنانية من جهة، ودعم كامل للعدو الصهيوني من قبل حلف الناتو من جهة أخرى، ومثلها الحرب الدائرة بين روسيا بمساندة صينية كورية وإيرانية، وبين أوكرانيا بدعم كامل من حلف الناتو أيضاً تظهر بوضوح خارطة الصراع القديم المتجدد، بين القوى الصليبية المتلونة عبر التاريخ ضد العالم العربي والإسلامي ومعه القوى الشرقية.

مهما اختلفت تسميات القوى والدول خلال القرون التسعة الماضية فإن الخارطة الجغرافية للصراع باقية على ما كانت عليه رغم ما فيها من مد وجزر. ذلك لأن الشعوب هي التي تعبر عن طموحاتها بغض النظر عن النظم السياسية الحاكمة وبغض النظر عما تتسمّى به تلك النظم.

إن الصليبية كانت وما زالت هي عدو الحضارات الإنسانية، وتسمياتها تتغير عبر الزمن، هي حلف الناتو وهي قوى الاستعمار وهي الصهيونية وهي الليبرالية وقس على ذلك...