مؤنس الرزاز : عالم روائي من شظايا وفسيفساء

ترك الروائي الراحل مؤنس الرزاز (1951-2002) اثني عشر عملاً روائياً، هي رصيده الإبداعي الأبرز، إضافة ﺇﻟﻰ مجموعتين قصصيتين، وبعض الترجمات، وسيرة اعترافية ﻟﻢ تكتمل

مؤنس الرزاز : عالم روائي من شظايا وفسيفساء
مؤنس الرزاز : عالم روائي من شظايا وفسيفساء

ترك الروائي الراحل مؤنس الرزاز (1951-2002) اثني عشر عملاً روائياً، هي رصيده الإبداعي الأبرز، إضافة ﺇﻟﻰ مجموعتين قصصيتين، وبعض الترجمات، وسيرة اعترافية ﻟﻢ تكتمل. ونال خلال حياته الإبداعية/ الكتابية تقديراً كبيراً ﻓﻲ المستوى المحلّي والعربي، وكما أنّ عالمه الإبداعي واسع ﻓﻲ أبعاده الجغرافية إذ يشمل (بيروت، بغداد، عمّان) بصورة أساسية، فإن تجربته سريعاً ما امتدت ﺇﻟﻰ الآفاق العربية، وتمكّنت مبكراً من تجاوز المحليّة أو القطرية، ﻭﻟﻢ ينظر أحد لمؤنس الرزاز إلاّ بوصفه أديباً عربياً يسلك اسمه مع أبرز الروائيين العرب المعاصرين.
قَدّمت روايات (الرزاز) تجربة مختلفة، وامتلكت فرادتها الخاصة، منذ عمله الروائي الأوّل (أحياء ﻓﻲ البحر الميت – 1982) مروراً بأعماله التالية: متاهة الأعراب ﻓﻲ ناطحات السراب (1986)، اعترافات كاتم صوت (1986)، جمعة القفاري/ يوميات نكرة (1991)، الذاكرة المستباحة وقبعتان ورأس واحد (1991)، الشظايا والفسيفساء (1994)، مذكرات ديناصور (1994)، فاصلة ﻓﻲ آخر السطر (1995)، عصابة الوردة الدامية (1997)، سلطان النوم وزرقاء اليمامة (1997)، حين تستيقظ الأحلام (1997)، وأخيراً: ليلة عسل (2001).

السيرة والرواية:
وتمثّل هذه الروايات مادة غنيّة ﻓﻲ مستوى الفرادة الرؤيوية، ﻭﻓﻲ تعيّناتها الجمالية، واقتراحاتها السردية، ولعلّ أول ما يستوقف القارئ ﻟﻬﺬﻩ التجربة ما يجده من صلة حميمية بين الروائي ورواياته، أو حضور الروائي ﻓﻲ رواياته، وحتى وقت قريب كان هذا الحضور (بمعناه الذاتي) ممنوعاً على الكاتب، إذ كانت الرواية الواقعية (بالمعنى المستقرّ كلاسيكياً) رواية موضوعية تتحدث عن الناس والأشياء والأماكن لكنها لا تتّسع للسيرة الذاتية حتّى بعد تحويرها ودمجها بعناصر خيالية تقطّع حصيلة الذاكرة، وتعبث بأبعادها (السيَريَّة).
وكتابة مؤنس الرزاز هي كتابة ذاكرة وخيال من ناحية تأثرها بالسيرة، أو اعتمادها عليها، عبر لعبة سردية طوّرها الكاتب ﺭﺑﻤﺎ فراراً – أوّل الأمر – من رواية سيرته، ولذلك فإن المقارنة بين كثير من الإشارات التي تكشّفت فيما نشر من السيرة الجوّانية، وما يماثلها من مواقف وأحداث وتفاصيل وردت ﻓﻲ الروايات الصادرة قبل السيرة، تكشف المقارنة عن مقدار الاعتماد على السيرة بوصفها منبعاً حاراً وغنياً لتجربة الرزاز ... بل إن الكاتب ﻓﻲ رواياته الأخيرة لا يمتنع عن ذكر اسمه كمؤلف وكشخصية، ويلغي الحد الفاصل بين السيرة والرواية ضمن المنطق الخاص (وهو بصيغة أدق منطق اللامنطق) لأنه مشتق من عالم الأحلام والكوابيس والتذكارات وعالم الغرائب وغير ذلك من أشكال التمويه والتناسخ.
يقوم العالم الروائي لمؤنس الرزاز ( 1950 – 2002 ) على بنية مشظاة موعودة بالتداعي والتخلخل في كل حين، ولعل عنوان إحدى رواياته ( الشظايا والفسيفساء ) إيجاز بليغ لتلك الرؤية ولعالمها المتزلزل، وتبدو روايات مؤنس – التي تشترك في إضاءة رؤية لعالم متكسِّر لا انتظام ولا نظام لـه – أشبه بمعلقات شاهدة على مدى الخراب وفداحة الخيبة التي عبثت بكل شيء ، فهي لا تهجس بخلق النظام وإن كانت بسبب من غيابه، ولا تقدم محاولة لإعادة ترتيب الفوضى، ولا ترسم تصوُّراً لكيفية عبور حالة التمزق والتكسُّر، وكأنها تجد ضالتها في ضبط شهد التمزق والتخلخل ليكون مثالاً للاعتبار، ولتكون هـذه القراءة الاسترجاعية أوَّل خطوات المواجهة والمدافعة .
وفي هذا العالم المتشظِّي مواقف وأشتات مُمزقة، تنطوي على مفارقات وإمكانات كابوسيَّة متعددة، لا تنتمي فقط إلـى عالم الرواية، بوصفها منطوقاً سردياً محايداً، وإنَّما هي نتاج " واقع محكوم بقوانين الهلوسة وقواعد الكوابيس " كما يقول عناد الشاهد، أحد أبطال الرزاز الأثيرين .
ويشكِّل هذا الرابط الكابوسي مصدراً جوهرياً ومنبعاً خصباً لهذا العالم الروائي، ويكاد يسيطر على أكثر أعمال الرزاز باستثناءات محدودة يتوسَّع فيها المنبع الواقعي الصريح، دون أن يشكِّل نمطاً واضحاً مهيمناً، وهذا المناخ الذي يختلط فيه الواقعي بالغرائبي، والممكن بالمستحيل، والحقيقة بالحلم لا يبدو مفتعلاً ولا يأخذ هيئة التقنيات المحايدة عند الرزاز، إنَّما يستند إلى واقع شخصي وعامّ ربَّما أكثر كابوسيَّة وغرائبيَّة من المتخيَّل أو المفترض، وهذا ما يجعل هذا العالم الروائي مع ما ينطوي عليه من هذيان وكابوس ولا معقول – عالماً قابلاً للقراءة وصالحاً للمتابعة، رغم أنه يصل أحياناً إلى حدود قصوى من الغموض والتشاكل تجعل التواصل صعباً، وتحدُّ من إمكانات التأويل والقراءة .
وإذا كـان الكابوس الواقعي، أو الواقع الكابوسي هو المرجع الذي تستند إليه روايات الرزاز، فإنّه يفسّر لنا وحدة المناخ فـي أكثر أعماله، فهو لا ينتقل إلى موضوعات متباعدة، ولا يتجوَّل في مناطق متباينة، وإنَّما يعود إلى المناخ نفسه، وإلى التراب نفسه، ليقدِّم لنا في كل عمل صياغـة جديدة، بمواقف وأمثلة جديدة، أو محاولة أخرى للمعاينة، دون أن ينهض العمل الجديد على موقف جديد أو متباين بوضوح عن بقيَّة الأعمال، إنَّه في كل عمل يؤكِّد تشظِّي المرجعيَّة وتمزّقها اللانهائي، مثلما يلح على غرائبية ذلك الواقع، ويوسِّع مدى الرؤية الجريحة، ويضيف صوراً جديدة لا تنقض كل ما فات وإنَّما هي محض أمثلة جديدة تؤكِّد ما قاله في أعماله المبكرة .
وهكذا تبدو الرواية عند الرزاز نمطاً من العذاب والاحتراق، أكثر من كونها نافذة للتطهير، بما تنطوي عليه من تذكارات الهزيمة، والجراح المتعددة عبر مساحات ممتدة من الأحلام المجهضة، والكوابيس المفزعة التي عايشها الكاتب ( واقعياً ) وبنيت عليها حياته الشخصية، ولذلك لا تهدف مثل هذه الكتابة لأية غاية نفعيَّة أو تعليميَّة بالمعنى الأخلاقي أو التعليمي، إنَّها ليست أكثر من مراث موجعة أخذت هيئة الرواية المفتوحة، وهي أشبه ما تكون بالنار التي قد يلجأ إليها عندما يستعصي العلاج، فيكون الكي بالنار خياراً أخيراً موجعاً يترك آثاراً مؤلمة وتشويهات موجعة .
ويبدو أنَّ قدر مؤنس الرزاز أن يكون ابناً للمفكِّر العربي منيف الرزاز، أحد أبرز قادة حزب البعث منذ مطلع الخمسينات، أما ما أحاط بتجربة الأب من خيبات، ثمّ تجربة حزب البعث نفسه في الحُكم وما عصف بالأب والحزب من رياح عاتية وانقلابات وخلافات، فقد فعلت فعلها المؤثر في تكوين مؤنس وفِي رؤيته، إذ لم يكن له خيار إلاَّ معايشة تلك المناخات والاحتراق بآلامها .
ويُمكن إيضاح هـذه المؤثرات بالاستناد إلى شهادة قصيرة قدَّمها الروائي نفسه في لقاء مهرجان جرش ( 1997 ) ويبتدئها بالسؤال الجارح : عمَّا يمكن أن يقوله روائي عن موقفه من عالَم لَم يرَ منه سوى النكبات والكوارث والدمـار، وألخص فيما يلي أهم ما اشتملت عليه تلك الشهادة من إضاءات فاعلة :
* انتزعني الطبيب بالقوة من بطن أمي بعد عملية قيصريَّة وقذفني إلى هذا العالَم فإذا بي في ميدان حرب ضارية ... ولدت ابن أحد هم قادة حزب البعث العربي الاشتراكي ".
* اعتقال الأب عام 1957 وكان عمر مؤنس سبع سنوات " انهارت أسطورة الأب البطل العصي على الهزيمة، أحسست بالخذلان وبالعجز، أحسست بالذنب لأنني عجزت عن إنقاذه، وأحسست بأنَّه خذلني لأنَّه لم يقاوم معتقليه "، وقـد ابتدأ اختلال العالم حينذاك " يومها اهتز معمار العالم الخارجي وبنيانه في عيني هزّات عنيفة خلخلته لكنَّها لم تدمِّره تماماً ".
* عام 1966، حيث انقلب الرفاق على الرفاق : " الصدمة كانت أعنف من أن يتحمَّلها جهازي العصبي، سرعان ما عاد بنيان العالم الخارجي يتَّخذ هيئة اللامعقول، بينما بدأت التداعيات والانهيارات في البناء الجوّانِي "، وقد اختفى مع والده كي لا يأخذه الأعمام / الرفاق رهينة للضغط على والده .
لقد عاش الرزاز هذه التجربة بكل ما فيها من مرارة وعلقم، واعتمد عليها اعتماداً واسعاً في صياغة عالمه الروائي، وكأنَّه لا بدَّ من الخيبة ليولد الروائي، فلو افترضنا أنَّ منيف الرزاز لم يختلف مع رفاقه مثلاً، وأصبح زعيماً، فهل كنَّا سنكسب روائياً عربياً، أم أنَّ مؤنس سيكون في موقع آخر، وسياق مختلف، هل سيكتب ما كتب أو ما يشبهه أم سيكون ابناً لزعيم كبير، وربَّما يرثه في الزعامة؟ لكن كل هذا لم يحدث، وإنَّما خلف معماراً أدبياً مختلفاً، سيظلّ خالداً أبداً، بينما تُنسى السلطات والزعامات ويغيبها التاريخ .
شظايا وفسيفساء:
ﻓﻲ رواية تحمل عنواناً دالاً، هو (الشظايا والفسيفساء) نجد رواية مجزأة مقسّمة بصورة شبه عبثية، إذ يصعب اكتشاف أو استنباط قانون منظم لبنائها وانقسامها، ولكننا عندما نتأمل فكرة (الشظية) فإننا سنجد مفتاح قراءتها والتواصل معها، الشظية هي قطعة من قنبلة، أي نتاج انفجار مدمّر، وهي تتميز بعدم الانتظام، بالخروج على الهندسة والقياسات الدقيقة، قد تكون صغيرة أو كبيرة، قد تصيب أو لا تصيب، قطعة بجرح أو تؤلم من تصيبه، ومجموع الشظايا قد يشكل شيئاً أو مادة موحدة، أو كانت كتلة موحدة قبل انفجارها.
الرواية محض شظايا، أو شظايا محض ... ولذلك لا نستغرب تكرار عنوان (شظية) عشرات المرات، ﻛﺄﻧﻬﺎ مفتاح أو كلمة سر، تشبه كلمات المتصوّفة أو عنواناتهم المختصرة، لكنها تتناقض معها ﻓﻲ المدلول والغاية، العنوان الصوفي قد يكون (لطيفة) أو (إشارة) وعند الرزاز (شظية) أو (فسيفساء)!!
والرواية ﻓﻲ مقاطع أو عنوانات مجزأة على هذا النحو، تقوم سردياً على شخصيات قليلة (كما هو الشأن ﻓﻲ عالم القصة القصيرة) شخصيات أوضح من غيرهما (سمير إبراهيم) و(عبد الكريم إبراهيم) ﺛﻢ سميرة شقيقة أحدهما وحبيبة الآخر، المرأة لا دور ﻟﻬﺎ، إلاّ ﺃﻧﻬﺎ ذريعة لاستكمال عالم الرجلين (أو حتى الرجل الواحد لأن الاثنين يتداخلان ويلتبسان معاً) ذريعة بمعنى ﺃﻧﻬﺎ تهيئ الفرصة لاستكمال الشروخ ﻓﻲ عالم المرأة، إضافة ﺇﻟﻰ عالم الرجل المتشظّي.
ليس ثمة حبكة، ولا ملامح لسرد متسلسل، فلا مكان لمثل هذا السرد ﻓﻲ عالم التمزّق والتكسر، مع ذلك فإننا نجد كل شيء أو لا شيء، نجد مجابهات ومواجهات مع العاﻟﻢ الجديد ﻓﻲ مدينة عمّان خاصة، وأحياناً تختصر ﻓﻲ جبل اللويبدة كمكان أثير ﻓﻲ الرواية ﻭﻓﻲ حياة الروائي الراحل، أكثر المشاهد الممزقة يكون هذا الجبل مكاناً ﻟﻬﺎ، أما مادة الرواية فمادة مجزّأة من تشوهات المدينة وأحوالها غير المستقرة: الخروج من حالة الأحكام العرفية ﺇﻟﻰ ما سمّي بالانفراج الديمقراطي، خروج الأحزاب ﺇﻟﻰ العلن، النقابات، رابطة الكتاب وتراجع دورها بعد إعلان الأحزاب، حقبة التكنولوجيا وتطور الاتصالات، الانتخابات النيابية، المجتمع الممزق بين بقايا البداوة واشتراطات الحداثة والمدنية، تركيبة الحكومة، مشكلات عمّان ... الخ.
هذه المكونات وما يشبهها هي إحدى طبقات الرواية، وأحد مستوياتها المؤثرة، وهي تجابه هذه التحولات وتحاورها وتحاكمها بروح ساخرة مرة، وروح ناقدة بقسوة ﻓﻲ موقفٍ ثان، ﺛﻢ هي لا تكتفي ﺑﻬﺎ، ﻭﺇﻧﻤﺎ تتصل بمدن عربية مجاورة، (بغداد، بيروت، دمشق) وهي المدن المتكررة ﻓﻲ روايات الرزاز، إضافة ﺇﻟﻰ مدن أمريكية بدرجة أقل (واشنطن، نيويورك).
أما صلة هذه المدن بعمان، فتنشأ من ماضي الشخصية (سمير إبراهيم) فهو حزبي سابق، يبدو ﻓﻲ صورة خيبة سياسية، وليس بعيداً عن (عبد الكريم إبراهيم) وجهه الآخر، أو طبقته الأخرى، عبد الكريم أكثر تماسكاً وأقل خيبة، لكنّه لا يفترق عن المدعو (سمير إبراهيم).
ﻓﻲ ملاحظة دالة ﻓﻲ بداية الراوية يكتب الرزاز: (يقال إن الأوراق المشظاة المبعثرة ﻓﻲ هذا الكتاب من وضع عبد الكريم، أما أوراق الفسيفساء المفتتة فهي من وضع سمير إبراهيم) ولكن هذه الملاحظة لا تمنحنا حلاً للتداخل والتمازج بين الشخصيتين، بمقدار ما تؤكد لنا طبيعة العاﻟﻢ المشوش الذي تنهض الرواية التمثيلية بصورة موازية، أو ببنية سردية (غير منظمة/ مشوشة) تستمد شريعة تكسّرها من فكرة الشظايا والفسيفساء المفتتة.
مذكرات ديناصور:
 وقد استخدم مؤنس هذا الشكل المفتت علانية ﻓﻲ أكثر أعماله الأخيرة، إذ نجد بوضوح وبتقنيات مقاربة ﻓﻲ (مذكرات ديناصور) والديناصور هو لقب (عبد الله) لأن أفكاره ووعيه ينتميان للعالم المنقرض.
(مذكرات ديناصور) هي بين: عبد الله الديناصور، وصديقه الملقب بذبابة، والمرأة (زهرة) أي ﺑﻤﺎ يشبه ثلاثي (الشظايا والفسيفساء)، كما أنه لجأ للعنونة التي تستقيم وتتواءم مع الكتابة المشوشة، التي لا تتابع حدثاً ولا تنميه، ﻭﺇﻧﻤﺎ هي تعرض كِسَراً وأشتاتاً من مجمل الصورة.
منطق الكوابيس والأحلام، مفتاح أساسي لفهم هذه الروايات، والتحاور معها، الحلم الكابوس وحده يفسّر لنا المساحة الواسعة للهذيان، وللتفكك الذي يصيب كل ما نعرفه من العناصر السردية ... حتى اللغة تفتقد الجملة المنظمة المكتملة، تتحول ﺇﻟﻰ لغة سريعة، ذات جمل غير مترابطة من الناحية التركيبية، ﻭﻛﺄﻧﻬﺎ ﻓﻲ تفككها تحاكي تفكك الشخصيات ووعيها المشوّش.
فكرة المذكرات أيضاً تحيلنا على التجزئة والتفكك، فالمذكرات هي اقتطاعات من يوميات أو أحداث دون تطوير أو بناء منظم، فالعنوان أيضاً جزء من المنطق السردي للرواية ... واللافت تطوير مؤنس الرزاز لتقنية (الميتا سرد) التي تتيح للراوية أن تتأمل نفسها، باستعادة بعض أحداثها ﻓﻲ مرآتها هي أنواع من إعادة القراءة، وسرد السّرد، وحاورته من داخله، بل إنّ المؤلف نفسه يغدو شخصية سرديّة ويشير ﺇﻟﻰ ذلك منذ البداية:
(مَرَّ قرار الذين ساهموا ﻓﻲ كتابة هذا العمل من زهرة مروراً بمؤنس الرزاز انتهاءً بعبد الله الديناصور، إضافة ﺇﻟﻰ الأطياف والأشباح والإيماءات الغامضة، أن لا أكتب مقدمة ﻟﻬﺬﺍ العمل). وهذا الكلام يرد ﻓﻲ مقدمة لكنها تحمل اسم (مؤخرة لا مقدمة ﻟﻬﺎ حكاية حب). وهذا نوع من الإمعان ﻓﻲ اللعبة السردية، وغواية اللامعقول والسخرية السوداء.
مؤنس الرزاز المؤلف، ومؤنس الشخصية، يعبران عن حالة فصام مفهومة سردياً، ومتوافقة مع طبيعة العاﻟﻢ السردي ومنطقة الكابوسي الذي يتيح للشخصية أن تتحول ﺇﻟﻰ غيرها، وتتجول ﻓﻲ طوابقها الذاتية بحرية كأنما هي غيرها. وليست هي الضحية والجلاد ﻓﻲ آن واحد.
والمناخ العام ﻓﻲ (مذكرات ديناصور) لا يبتعد عن عالم (الشظايا والفسيفساء) الجو الحزبي ومؤسسات المجتمع المدني والانتخابات وصراع القبلي مع الحزبي، عشائر الأحزاب، السياسيون القبليون، المرأة الهامشية التي لا تعلو لتكون رمزاً أو مفتاحاً لعالم الشخصية، المثقف المختلّ المهزوم، كوابيس بيروت وحربها ... الخ. إضافة ﺇﻟﻰ قراءات وإشارات ثقافية تومئ ﺇﻟﻰ ثقافة الكاتب وطبيعة البقة التي يكتب خيبتها. ويمكن أن ننتبه ﺇﻟﻰ النهايتين المتقاربتين:
- الشظايا والفسيفساء: تنتهي بجملة " ... ﺛﻢ استيقظت يقظتي السوداء".
- مذكرات ديناصور: تنتهي بجملة "... وتعيدني ﺇﻟﻰ سرير اليقظة المعتمة".
فاليقظة السوداء واليقظة المعتمة، والانتهاء ﻓﻲ السرير بالنوم وبالتالي بالأحلام المفزعة والكوابيس ليست مصادفة ﻓﻲ عالم روائي لا يقوم دون كوابيس، ولا ينتظم ﻓﻲ مصفوفات سردية متنامية، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻓﻲ حطام لا منطقي يأخذ نطق الكابوس ﻓﻲ الجمع بين المتناقضات ﻭﻓﻲ قهر عنصري الزمان والمكان ... بحيث يتشققان، ويغدو كل شيء يسيل دون أن يتمكنا من السيطرة عليه أو ضبطه.
ويمكن الإشارة ﺇﻟﻰ ظاهرة تعد الرواة، ونفي الراوي الواحد، والصوت الواحد، لصالح رواية متعددة الروايات والأصوات، دون الوصول ﺇﻟﻰ نتيجة أو نهاية مفضّلة، يظل العاﻟﻢ الروائي يتناسل ويتعدد، معتمداً على تنوع المنظور، ورغبة الكاتب ﻓﻲ بناء (رواية ديمقراطية) لا تتعرض شخصياتها للقمع السردي، إذ يكفيها ما عانته من مرارة القمع السياسي والكبت العاطفي والجنسي، وكبت التربية والمجتمع وغير ذلك من أشكال القمع والتصفيات التي عرض روايات الرزاز لفجائعها وآلامها.
منطقة الكابوس:
ويظل الرزاز ﻓﻲ منطقة الكابوس ويوغل فيها عندما يكتب (عندما تستيقظ الأحلام) معتمداً على شخصية أساسية يسميها (مختار) لكنه مع وضوح الاعتماد على ضمير المتكلم (مختار يعرض لتجربته) فإنه يتجاوز هذا الضمير، ويجعل الرواة ﻓﻲ صورة معقدة من التعدد والاختلاف، فيكتب مثلاً: "ﻭﻓﻲ رواية فريدة لا يعرف من رواها، وهذا نادر ﻓﻲ مثل هذه الحالات، يقول الراوي المجهول...". ويكرر هذه الطريقة ﻓﻲ سرد السرد، ممعناً ﻓﻲ لعبة التخييل والابتعاد مسافات إضافية عن العاﻟﻢ الممزق الذي تمثله الرواية.
تتكرر هذه اللعبة – التقنية ﻓﻲ (سلطان النوم وزرقاء اليمامة) حيث عالم (شبه جزيرة الضاد) وهو العاﻟﻢ العربي ﻓﻲ صورة سردية ... وتندمج ﻓﻲ الرواية شخصيات حقيقية بالمعنى الواقعي (الروائي – ميم) وحسن أبو علي (صاحب الكشك المعروف وسط البلد) ولكنها تتعارض مع شخصيات مستمدة من ذاكرة الكتب (علاء الدين، زرقاء اليمامة ...).
وكما أن (مختار) ﻓﻲ رواية (عندما تستيقظ الأحلام) يتميّز بموهبة قراءة أفكار الناس والحدس ﺑﻬﺎ، فكذلك هي (زرقاء اليمامة) ومن ناحية سردية فإن الاثنين تقنيات سردية خالية بهدف عرض الأفكار بصورة تمثيلية – درامية بعيدة عن المباشرة، فضلاً عن تناسبهما مع المنطق الكابوسي، وفيض الخيال الذي فجّره الرزاز ﻓﻲ رواياته الأخيرة.
ويمكن الإشارة ﺇﻟﻰ تقنيات المسرحية ﻓﻲ رواية من مثل (فاصلة ﻓﻲ آخر السطر) وكذلك الذاكرة المستباحة وقبعتان لرأس واحد) فهي أعمال مركبة قد تنتمي ﺇﻟﻰ ما يمكن أن يسمّى (المسرواية) أي المسرحية – الروائية، أو الرواية المسرحية، التي تتركب من تقنيات ملتبسة بين جنسين سرديين، وليس الحوار إلاّ تقنية واحدة من التقنيات المسرحية، وهما عملان صالحان لإقامة دراسة مستقلة حول هذا الالتباس ﻓﻲ الكتابة والتجنيس.
وقد ظلَّ الهاجس العربي حاضراً في سائِر روايات مؤنس، يتبدى بأشكال ومواقف مختلفة، ولو تأمَّلنا واحدة من رواياته المتأخرة " سلطان النوم وزرقاء اليمامة ( 1997 ) " لوجدناها مثالاً لعالم التشظِّي والتداعي فضلاً عن الرؤية الممزقة لعالم العروبة من خلال المكوِّنات السرديَّة التي يمكن وضع الملاحظات التالية عليها :
* الرواية مقسَّمة إلـى عنوانات متعددة، لا تشكل حدثاً مطّرداً نامياً، وإنما هي مواقف وحكايات تؤكِّد تداعي عالم الضاد أو شبه مدينة الضاد، هذا العالَم الذي لا مكان لـه فـي كل الخرائِـط كما تصفه الرواية، إنه عالم من غبار ورمـال وعجاج، يعبث به مخرج أمريكي مجنون، والناس فيه لا يميِّزون بين الإعصار الواقعي والإعصار المفتعل لغايات تصوير الفيلم الأمريكي .
* يستدعي الكاتب شخصيات مثل زرقاء اليمامة التي تمثِّل نموذجـاً للرؤية والبصيرة في التراث العربي، لكن قومها لم يصدِّقوها عندما أخبرتهم بالجنود الذين يستترون بالشجر، فصبّحهم الموت والخراب، وفي الرواية تبدو أيضاً مبصرة، لكنها تقرأ أفكار الناس وتعرف ما يفكِّرون فيه وتتعرَّض لعذابات متعددة تنتهي بها إلى المستشفى، فهي تفشل في أن تقدِّم أي شيء لعالم الضاد، وسكانه .
* ويختلق الكاتب شخصيات أخرى من خلال تحويل الفكرة إلـى شخصية، فمن قـولِهم "سرُّك في بئر" يبتدع شخصية ( بئر الأسرار )، الذي يفضي إليه سكَّان الضاد بأسرارهم كي يخففوا من الإحساس بالذنب والخطيئة، مثلما يبني شخصية ( سلطان النوم ) ويعدُّ النوم (سلطنة)، مستفيداً من دلالاتها المختلفة معتمداً على مبدأ المشترك اللفظي، وهناك أيضاً علاء الدين صاحب الفانوس الشهير وغيره، فكلّ هذه الشخصيات، إضافة إلى ( ميم الراوي )التي تشير إلى تحول الكاتب إلى شخصية في الرواية، تحضر في ( سلطان النوم وزرقاء اليمامة )، تجتمع معاً، تتحاور وتختلف ويداخل الكاتب في عالمها بين عالم النوم وعالم اليقظة، بين الواقع والمتخيَّل، مثلما يستدعي شخصيات أخرى من ( عمان ) ويمزجها بهذا العالم الغريب، كما فعل عندما أدخل شخصية ( أبو علي ) صاحب كشك الصحف والمجلاّت في قاع المدينة .
* ويتمكَّن مؤنس من التحرُّك بسهولة وعفوية إذ لا يعدم وسيلة ما دام يلجأ إلى الحلم / الكابوس في رسم هذا العالم، وإذ يتخلَّص من بئر الأسرار بالموت، عندما يدفعه للإفضاء بما يحتفظ به، يعيده بعد ذلك للحياة وكأن شيئاً لم يكن، إذ أنّ منطق الحلم والهذيان وحده يسوِّغ ذلك .
* وتكاد هذه الرواية تكشف عن نفسها بنفسها، فعندما يستحضر شخصية ( سرحان سرحان ) السجين العربي الشهير في السجون الأمريكية يقول : " إنَّ سرحان يعرف كيف يؤلِّف هذا الكاتب روايته ... يَحمل أربعـة شوارع وثلاثـة أماكن من عمَّان، مقهى، ومكتبة ودائرة حكوميَّة، ثمَّ ينتقل إلى بيروت ... ثمّ يقتحم مصحاً للمجانيـن ومعتقلاً، ثـم يخلط كل ذلك بثلاث صور من بغداد ... ثم يمزج كل هذا الخليط بصور تخترعها أصابع خيال مهووس، ثمَّ يقتلع عناصر حكاية ألف ليلة وليلة ويطحنها بحجر رحى المخيلة ... ثمَّ يدخل كل هذه العناصر والخلطات في معصرة المخيِّلة مرَّة أخرى، بعد أن يستغلّ مواداً خاماً ليستخرجها من مناجم الواقع، ثمَّ يدفع مخيِّلة المعصرة من الجهة الأخرى ... ثم إذا بِه يخرج من قبعة الساحر التـي يضعها على رأسه رواية " (ص 79 – 80).
فهذا النصّ وما جاء بعده في الرواية، يمثِّل تصور الكاتب لكيفية إنتاج روايته اعتماداً على المخيلة المُصابة بالكابوس، ولذلك تخلط صوراً متباعدة لا تجتمع منطقياً، لكن الذي يجمع بينها هو منطق الحلم، الذي لا منطق له، إذ تجتمع في هذا المنطق مكوِّنات متباعدة زماناً ومكاناً، أحياء وأموات دون بحث عن مسوِّغ لاجتماعها، وعبر الاعتماد على ذلك يخلط الروائي ما يمكن أن يكون قد قرأه بما يمكن أن يكون قابلاً لأن يحدث في صور متأرجحة مُمتدَّة بلا نهاية .
* ولدى مؤنس الرزاز روح ساخرة، تفجر عناصر المفارقة بأساليب شتَّى، فِي هذه الرواية وفي سواها، وهي سخرية مرة سوداء، تسهم في تكثيف الدلالة، رغم ما يحيط الرواية من تفكك وتمزُّق، ومن لغة التداعي والهذيان، وتسهم هذه الروح الساخرة في تحريك البنية السرديَّة، وفي توفير عناصر الحيوية والحركة إلى حدٍّ بعيد، كما أنَّها تعوِّض عن غياب البناء المُحكم الذي قد يوفِّر عنصر التشويق والإرجاء مما هو ضروري لبناء الأعمال السرديَّة .
* تكشف هذه الرواية عن مدى التعقيد الذي يختبئ خلف التشظِّي، فإذا سلَّمنا بأنها تتكون من شظايا ومزق متعددة، فإنَّ وضعها في سياق عمل واحد، وابتداعها من الأساس يستلزم مخيِّلة خلاَّقة قادرة على الخلق والاستدعاء، والتخلُّص من المآزق المحتملة لهذا النمط من الكتابة .
وهي تستند إلى سياق طويل من المعارف والعلوم الإنسانية في الأحلام والكوابيس والهذيان مِما طوره علم النفس عند فرويد وكارل يونج وغيرهما، مثلما تستند إلى تجارب سياسيَّة ومواقف اجتماعية وثقافية، فضلاً عن التجربة الشخصية، ولذلك لا تتعالى مثل هذه التجربة على الواقع، بل إنها تزعم النسج على منواله، واستلهام مكوّناته ضمن بناء ليس سهلاً خارج المخيِّلة القادرة على التجاوز وضبط التداخل والتمازج .
وأما نهاية هذه الرواية فهي نهاية مفتوحة ممتدَّة، فكما أنَّ الرواية لم تطوِّر أحداثاً محددة، وإنَّما انتهت بحوار بين زرقاء اليمامة والشيخ الجليل الذي وصل إليها بعد أن ارتفع الغبار وكاد يدفنها، والفقرة الأخيرة تجيء على هذا النحو :
" التفتت زرقاء اليمامة وتفحَّصت طيف السلطان مُقبلاً، ثمَّ تفحَّصت انحناءة ظهره مدبراً، ولاحت من عينيها الواسعتين الواهنتين نظرة حائِرة، ثمَّ راحت تبحث عن محارتِها "، تنتهي بالحيرة، والبحث عن الطيف أو تفحُّصه، والبحث عن المحارة، ويظلُّ المدى مفتوحاً لاستمرار الحكاية إلى اللانهاية، وهذا النمط من النهايات يكثر في أعمال مؤنس امتداداً للطبيعة السرديَّة غير المحكومة بأحداث ثابتة أو مضبوطة، وهو من مظاهر انفلات البنية وعدم انتظامها، فضلاً عن تأكيد طبيعة هذه التجربة التي لا تسعى لتقديم حلول أو خيارات، وإنَّما هي رحيل وهجرة في المُخيِّلة لوضع شواهِدَ محزنة على واقع كابوسي بطبيعته ولا يحتاج اللامعقول فيه إلى اختلاق أو افتعال.

محمد عبيدالله.  عمان/ الأردن