الرايات الروسية في ألفاظ سومر وآشور وعقائد الشرق الأوسط، ومنهج إستقصائي لفقه اللغات (٣).

إن الأساطير بشكل عام تنقل لنا اللفظ وتحافظ عليه ولو بتصرف لغوي يتبع لهجات محددة ومن الممكن فهمها، ومن ثم إعادة التصريف إلى أصوله الأولى. ولكن في نفس الوقت فالأساطير تحوِّر المفهوم المرتبط باللفظ إلى حد تغيير المعنى والذهاب به إلى عالم آخر. وهذه الظاهرة تقدم خدمة كبيرة لعلم التاريخ من حيث إمكانية تتبع التغيرات لفهم التحولات العقائدية والإجتماعية والسياسية عبر التاريخ. 

الرايات الروسية في ألفاظ سومر وآشور وعقائد الشرق الأوسط، ومنهج إستقصائي لفقه اللغات (٣).

في الجزء الأول حددنا إطار الدراسة والتعريفات المصطلح عليها ثم انتقلنا في الجزء الثاني لدراسة أصول تسميات اللونين الأصفر والأخضر، لقراءة الجزء الأول إضغط هنا. لقراءة الجزء الثاني إضغط هنا. 

عن اللون الأحمر:
وبعد إيفان الرهيب سيطرت على الحكم القبيلة ذات الراية الحمراء، وكذلك كما اسلفنا بالحديث عن اللون الأصفر لم تكن كلمة (красный) تعني اللون الأحمر ولم تكن تعني "الجميل" كما هو سائد اليوم، فجذر الكلمة هو "рас" (راس)، وهذا ما سننظر في معناه.

 و"راش" بالاشورية معناها ملك أو رأس، ومنها اشتقاق كلمة "rex" (ركس) بمعنى الملك في أوروبا. (حرف ش بالعربية كان يلفظ x في اوروبا)، وزد على ذلك كلمة "رئيس" بالعربية الحديثة. 

وعند المصريين كلمة "راع" تشير إلى الملك ومنها التعبير العربي "فرعون"، ويأتي حديثه عند البحث في الألقاب. 

وحرف к قبل الكلمة يعرفه متحدثي الروسية ومعناه "إلى" أو "لِ"، وفي اليمن قديماً أستخدم الحرف "ك" بنفس المعنى تقريباً، بذلك تصبح الكلمة (крас) بمعنى إلى الملك أو للملك، والكلمة (красный) بمعنى الملوكي (الذي يُذهب به إلى الملوك) ويقصد بها الراية ذات اللون الأحمر التي توجههم إلى مكان الملك كما يقصد بها الشيء الجميل الذي يصلح لأن يقدم للملك ويليق به. ومن هنا جائت تسمية الساحة الحمراء أي الساحة التي يدخلون من خلالها إلى الملك (إلى الكرملين). ومع الزمن تحول معنى الكلمة من التوجه إلى الملك ليحمل معنى لون راية الملك الحمراء التي تدل على مكان وجوده. 

وكلمة "red" (ريد) الإنجليزية ومعناها "أحمر" هي من اشتقاقات كلمة "rex" وقد ورد ذكرها أعلاه. 

أضف إلى ذلك أن كلمة "روسيا" (تلفط بالروسية "راسِيّا" مع تفخيم الألف الأولى وتشديد الياء، وكذلك بالإنجليزية تلفظ "راشا") هي كلمة مازالت غامضة ومجهولة المصدر ويجتهد فيها المجتهدون، والأرجح أنها من مصدر "رأس"، ويقصد بها "المَلَكية" بمعنى المملكة، وسكانها "روس" اي ملكيون أتباع الملك. 

عن اللون الأسود:
وفي منطقة أوكرانيا قد تشكلت دولة منذ أكثر من ألف سنة تميزت باللون الأسود "Черный" (تشورنيْ). عاصمتها كانت مدينة كييف وتعتبر أوسع دولة في أوروبا في ذلك الزمان وعرفت بإسم "كييفسكايا روس". 

وجذر كلمة "تشورنيْ" هو "تشار" (чар) ولا نحتاج لجهد لنقول أنه من ألفاظ كلمة تسار (царь) التي تعني قيصر. الربط هنا بالملوكية واضح ويعفينا من الشرح. وتبديل حرف "س" مع "ش" معروف في اللغات القديمة، بل في الأصول العربية الشامية القديمة لم تميز الكتابة بينهما. 

انتشر في تلك الدولة عدد من المدن التي تحتوي أسمائها على جذر "تشار" مثل "تشيرنيغوف" و"تشيرنوبل" و"تشيركاسي" و" تشيرنيفتسي"، إضافة إلى اعتمادها في الدفاع على جيش سمي "تشورنيِه كلابوكي" (Чёрные клобуки) اي القبعات السود. كل هذه التسميات يجب أن تنسب إلى القيصر لأنها فعلاً كانت تنتسب إليه، ونسبتها إلى اللون الأسود هو خطأ بالفهم جاء في وقت متأخر، والقبعات هي "قيصرية" نسبة إلى الحاكم وليست سوداء نسبة إلى اللون. 

 والراية السوداء منحت للبحر الأسود إسمه المعروف اليوم، وفي الحقيقة إسمه البحر الملكي (القيصري) وليس الأسود بمعنى اللون. والغريب هنا أن كلمة "أسود" العربية هي من باب السيادة الواقعة على الشيء، فالقيصر هو السائد على البحر. 

وعند العرب وُصِف العبد بأنه "أسود" بسبب السيادة عليه وليس بسبب اللون، ثم مع الزمن ارتبطت الكلمة باللون وابتعدت عن السيادة. 

وهذا يظهر التوافق المزدوج من حيث المعنى بين العربية والروسية في تسمية البحر، سواء من باب السيادة عليه وايضاً من باب صفة اللون التي ارتبطت فيما بعد بالإسم بصيغتيه العربية والروسية. 

وهنا لا بد أن نشير إلى أن لون السيادة في الإسلام أو لون راية الرسول صلى الله عليه وسلم كان اللون الأسود، وبه مازال يتعمم "السادة" من أهل البيت من الشيعة، وكذلك مازال هو لون رايات الحركات الجهادية عند السنة. 

وهذا يتوافق بالتمام مع تفسيرنا لمصدر تسمية اللون الاخضر كما سلف في هذه الدراسة من حيث ربط إسم البحر بمعاني السيادة والملوكية والقداسة وليس باللون الأخضر أو الأسود، وبالتالي هذا يبطل النظرية القائلة بأن تسمية البحر الأسود جائت من لون البحر الداكن، أو من تسمية جهات العالم الأربع، فهو أسود في لغة وأخضر في لغة أخرى، وربما أكثر من ذلك. 

عن اللون الأبيض:
تقول ويكيبيديا أن "إيبلا مدينة أثرية سورية قديمة كانت حضارة ومملكة عريقة وقوية ازدهرت في شمال غرب سورية في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وبسطت نفوذها على المناطق الواقعة بين هضبة الأناضول شمالًا وشبه جزيرة سيناء جنوبًا، ووادي الفرات شرقًا وساحل المتوسط غربًا، وأقامت علاقات تجارية ودبلوماسية وثيقة مع دول المنطقة والممالك السورية ومصر وبلاد الرافدين." 

وتقول النسخ الأجنبية في ويكيبيديا أن إسم "ايبلا" مشتق من لون الحجر الكلسي الأبيض الذي بنيت به المدينة. 

وكلمة "ألبا" (alba) تشرحها ويكيبيديا بإسهاب لتعيدها إلى الجذر الهندو-أوروبي لكلمة "أبيض"، وتقول بأنها كانت تدل على المملكة المتحدة البريطانية بشكل عام، إلى جانب استخدامات أخرى منها "البانيا". 

ومنها، حسب ويكشناري (wiktionary)، اشتقاق "abeel" بالألمانية و"abele" بالإنكيزية بمعنى البياض ايضاً. 

وكما أن مركز الحكم في روسيا هو الكرملين ذو اللون "الأحمر" فمركز الحكم في الولايات المتحدة هو البيت "الأبيض". 

وغير ذلك، "بيل" هو من الآله التي يتفرع فيها الحديث لكثرة الفاظه، هو "بعل" و"بيلوس" وبلاتون" و"بلاتوس" و"بول" وغيرهم، ويُزعم أيضاً بأنه من بنى بابل. ولا مجال هنا للحديث في كل ذلك. 

"بيل" له علاقة وثيقة بالأرض والعالم السفلي كما بالثروة المتمثلة بالمحاصيل التي تنبتها الأرض. ويربط الباحثون بيل بالاله الشامي "هدد" أو "حدد" والاله اليوناني "هاديس". 

تقول ويكيبيديا: "بيل أو بِل (بالأكادية بيلو) ، تشير هذه الكلمة إلى "الرب" أو "السيد" ، وهي عنوان وليس اسماً حقيقياً، ينطبق على مختلف الآلهة في ديانة بلاد ما بين النهرين في أكاد وآشور وبابل." 

وكلمة بيلاروسيا (белорус) تكتب بحرف "о" في وسطها اي بيلو-روس، كما في الأكادية، وبذلك بيلاروسيا تكون بالعربية هي روسَ بعلٍ وترجمتها روسيا السيدة وبتعبير آخر مملكة روس ذات السيادة، وهذه التسمية تحول مفهومها مع الزمن إلى روسيا البيضاء. 

بقي أن نقول أن كلمة "белый" (بيٰليْ) بالروسية معناها اللون الأبيض. 

وإن كلمة "black" بالإنجليزية تنحدر من نفس الجذر ايضاً ولكنها تدل على اللون الأسود. وهذا تأكيد آخر على أن تسميات ألوان الرايات مشتقة من معاني الملوكية والسيادة. فالسادة البعول كانت راياتهم بيضاء في مكان ما وسوداء في مكان آخر. 

ونستدل هنا بأن بيلاروسيا (روسيا البيضاء) عرفت بإسم روسيا السوداء في العصور القديمة، وأعتقد أن هذا مجرد التباس لغوي سببه أن رايات البعول في ذلك الزمان كانت إما بيضاء أو سوداء. وبالتالي فإن كلمة "بيلو" (بعلو) قد ترجمت بمعنى اللون الأبيض في لغة ما وبمعنى اللون الأسود في لغة أخرى. وبالتحديد فإن تعبير روسيا السوداء (تشورنايا) ورد باللغة الروسية وعلى الأرجح كترجمة لكلمة "بيلو" التي فيما بعد ارتبطت باللون الأبيض في اللغة الروسية بلفظها وليس بترجمتها.

ولا بد أن نذكر هنا أن كلمة تشور (تسار) تحمل في الأصل نفس معنى كلمة بيل (بعل)، أي السيد أو الملك، ومنها اقتبست أسماء الألوان. 

عن اللون الأزرق:
وتقول ويكيبيديا أن "سين هو اسم لإله القمر في بلاد بابل وآشور،.... . وهو يعرف عموما باسم إن زو أو سيد الحكمة وهذه الخاصية تعلقت به في كل الفترات". 

وتقول ايضاً: "وكان اسم ملتجأ سين الرئيسي في أور هو إي غيش شير غال، أو "بيت النور العظيم"؛". 

اعتقد أن الترجمة الصحيحة هي "بيت السيد العلي" ولكن ما يهمنا هنا لفت النظر إلى كلمة "غال" التي تحمل معنى العلو والعظمة والجلالة. إن كلمة "غالوبوٰي" (Голубой) بالروسية تعني اللون الأزرق الفاتح (السماوي)، وقد ناقشنا جذر "غال" سابقاً وسنكمل البحث للتعرف على اللون الأزرق العادي وربطه بالإله سين. 

إن رمز النجمة الذي يقرأه المترجمون "إن" غالباً ما يفسر بمعنى الألوهية، ومن هنا مولد أساطير المستشرقين. بيد أننا يمكن ببساطة أن نقرأه بمعنى العلو والارتفاع دون تحميله أكثر من ذلك. مثلاً "إن زو" معناها "زو" العالي وليس ثمة ما يدعو إلى إستخدام كلمة "إله" أو "سيد". وإذا كانت كلمة "زو" تعني "الحكمة" نحصل على معنى "الحكمة العالية" أو "عالي الحكمة" وليس "سيد الحكمة" أو "إله الحكمة". 

والحديث عن الحكمة يعيدنا إلى الخضر عليه السلام فهو رجل الحكمة الذي علم موسى دروساً. وتسمية "زو" هنا لا تختلف كثيراً عن تسمية "زير" التي ناقشناها سابقاً بالحديث عن اللون الأخضر، وهي تدل على الأول، والأول لا بد أن يكون حكيماً بالاستنتاج وليس بالمعنى المباشر. و "إن زو" إذن هو الأول العالي. 

إننا بإستخدام اللغات المعاصرة نصبح عاجزين عن تصور الأفكار بنفس طريقة اسلافنا وهذا غالباً ما يقود إلى الشطط في ترجمة نصوصهم. 

وبحسب ما وصلنا من أوصاف دينية فإن "إن زو" يعادل بالوصف "مار جريس" و "خيزير" و"الخضر"

ولما كان "سين" هو نفسه "زو"، وهو الأول والملك والحاكم وما شابه ذلك، فإن أصحاب الراية الزرقاء قد اقتبسوا من لقبه التسمية للون رايتهم، فقالوا انها "سين-يايا" وبالروسية (синяя) أي "زرقاء". هكذا تحول مدلول الكلمة من مفهوم الملكية إلى مفهوم اللون. 

وأحد ملوك آشور إسمه "سينشار إشكون"، وأراه لقباً وليس إسماً. ترجمته "الملك الأول الساكن" أي المقيم أو الثابت بمعنى الدائم. كما نرى لا علاقة لذلك بالأساطير والمعتقدات المرتبطة بها. 

والأزرق بالعربية تحتوي في جذرها "زر"، مما يعيدنا إلى "زو" و "زير" التي نوقشت في ما سبق. 

خلاصات:
إن كل ما ذكرنا هو قليل من الإشارات والأدلة التي تخدم لفهم منهج البحث. والتوسع لا بد أن يرفدنا بالكثير الذي قد نحتاجه في الدراسات اللغوية، ولكن ربما لا نحتاجه كثيراً لفهم السياقات التاريخية. 

  أننا نلاحظ الآن أن العلم الروسي يستخدم اللون الأبيض والأزرق والأحمر ولا بد أن في ذلك إشارة إلى توحيد القبائل، ويبدو أن العرب أخذوا نفس المنحنى عند تصميم العلم العربي الذي تتشارك ألوانه معظم الدول العربية. وأيضاً، مازال الدرع الرئاسي الروسي باللون الأصفر الذهبي في إشارة للقبيلة الذهبية (الدرع الرئاسي هو النسر ذو الرأسين) بينما غاب اللون الأسود رغم استخدامه سابقاً في راية القيصر، وفي نفس الوقت نلاحظ انفصال أوكرانيا صاحبة اللون الأسود وابتعادها عن الإمبراطورية الأم. 

ومما وجدت أن روسيا الحمراء كان لها إسم آخر "Червонная" (تشيرفونّايا) ومعناها الحمراء، والغريب في الأمر أن هذه التسمية للون الأحمر تحمل نفس الجذر مع تسمية اللون الأسود "Чёрная (تشورنايا) ومناطق اللونين تدين بالمسيحية. وفي نفس الوقت تتقاطع من حيث الجذر تسمية اللون الذهبي "золотая" مع تسمية اللون الاخضر "зелёная"، ومناطقها تدين بالإسلام. وهذه الغرابة تعزز فرضيتنا بأن ألوان الرايات أخذت أسماءها من ألقاب الحكام في كل منطقة. وفي سياق المقالة قد تدرجنا في المناطق مع الألوان من أراضي التتار نحو القوقاز ثم موسكو فأوكرانيا وهي مناطق تختلف فيها اللهجات واللغات ولكن تبقى المعاني راسخة في طيات الفاظهم. 

ومن الشواهد الهامة في هذا المجال أن القديس فلاديمر الذي حكم مملكة كييفسكايا روس واعتنق الديانة المسيحية اليونانية يلقب في الملاحم الشعبية ب"الشمس الحمراء"، وفي عهد يكاتارينا الثانية استحدث وسام شرف رفيع المستوى بإسمه.

 

وسام القديس فلاديمر مازال يحظى بالاهتمام والإحترام حتى اليوم ويتميز بشريطين أسود وأحمر تعلق عليهما شارة الوسام المعدنية. وفي ذلك إشارة إلى توحيد الرايتين السوداء والحمراء في ظل مملكة كييفسكيا روس. وهذا يفسر اشتقاق كلمتين من نفس الجذر للتعبير عن اللونين الأسود والأحمر. 

وبالعودة إلى أصل الأصول، فقد تحدثنا من قبل عن تحول كلمة "زير" إلى "زيل" عن طريق تبديل اللواحق وربطنا في ذلك بين الأديغية واليونانية  والروسية وعطفنا إلى العربية. والآن بالنظر للجذرين المستلخصين، "تشار" و "جال" نرى تشابهاً في أحرف البداية "تش" و "ج" مما يعيدهما إلى مصدر واحد بعد توحيد البوادىء واللواحق، ومنه تم اشتقاق أسماء الألوان الأسود والأحمر والأصفر والأخضر، والمسألة هنا ليست إلا مجرد إختلاف في اللهجات وحالات الإعراب حدث خلال عصور التاريخ  وأدى إلى تعدد اللغات مع ما صاحب ذلك من تعديل المفاهيم وربطها مع ألوان الرايات. 

إن أسماء الألوان المذكورة أعلاه باللغة الروسية هي في الحقيقة إسم واحد ينطق بلهجات وقواعد متعددة ومعناه الوسيط يرتبط بِ "لون الراية"، بينما معناه الأولي يعود إلى لقب الملك الحاكم كونه الأول والعالي وصاحب الجلالة ومثل تلك الصفات التي ترتبط ايضاً بصفات إلهية ومقدسة.

إن ما تقدم يحثنا على البحث في جذور الكلمات العربية ذات الصلة مثل "سار" (بجسده) و"شار" (بإصبعه) و"جال" (بنظره) و"زار" (مكاناً) و"زال" (سار حتى اختفى في الأفق) و"رأسَ" (سار في المقدمة أو علا على الأشياء)، و"ساد" و"سان"، فهل كان الخضر عليه السلام "بحراً" من هذه الأفعال كلها؟ هذا يستحق دراسة مستقلة لسيرة الخضر يتم خلالها مقارنة أفعاله بالمعاني المذكورة. إن الحكمة تتلخص في دمج كل تلك المفاهيم في إطار واحد يشكل نظرية متكاملة لشؤون المجتمعات، بكلام آخر، تلك كانت وسيلة الأقدمين لدراسة علم الإجتماع. 

ومما يجدر الاستشهاد به أن بعض الدارسين يفسرون إسم زرادشت (زارا-دشت) بالجمل الأصفر أو الجمل الذهبي مما يذكرنا بالقبيلة الذهبية والخضر عليه السلام، ولما كانت "دشت" تعني "أرض" فالصفراء منها تعني الصحراء وقد ذهب بعض المفسرين إلى هذا المعنى.

وبإعتقادي أن زرادشت الذي (كما يروى) ولد في بلاد القوقاز بين بحر الجرج وبحر الخزر يمكن أن يفسر اسمه بأرض زارا أو "زير" ليقابل بالمعنى بحر "زير". ما يعزز هذا الفهم أن زرادشت يعرف بأنه "رجل الحكمة والمعرفة" وهي نفس الصفة التي يعرف بها الخضر الذي يسمى في تلك البلاد "خي زير" أي "بحر زير". والخضر وإن كان إسمه مرتبطاً بالبحار إلا أن مسكنه على اليابسة في الجبال بحسب العرف السائد، وهذا ينطبق بالضبط على مناطق القوقاز الجبلية والمشرفة على البحار. 

إن الأساطير بشكل عام تنقل لنا اللفظ وتحافظ عليه ولو بتصرف لغوي يتبع لهجات محددة ومن الممكن فهمها، ومن ثم إعادة التصريف إلى أصوله الأولى. ولكن في نفس الوقت فالأساطير تحوِّر المفهوم المرتبط باللفظ إلى حد تغيير المعنى والذهاب به إلى عالم آخر. وهذه الظاهرة تقدم خدمة كبيرة لعلم التاريخ من حيث إمكانية تتبع التغيرات لفهم التحولات العقائدية والإجتماعية والسياسية عبر التاريخ.