الرايات الروسية في ألفاظ سومر وآشور وعقائد الشرق الأوسط، ومنهج إستقصائي لفقه اللغات (١).
إن دراسة الآثار اللغوية للألوان لا بد أن تعود بمعلومات ذات قيمة عالية تساعد على فهم المجتمعات القديمة وتقدم تفسيرات جديدة للأحداث المدونة في عصور التاريخ وبالتالي تساهم في إزالة الصبغة "الاسطورية" التي وضعها المستشرقون على تاريخنا.
المقالة السابقة كانت مثالاً عن كيفية تتبع أصول كلمة محددة عبر التاريخ بإستخدام المنهج الإستقصائي لفقه اللغات، وفي هذه المقالة ننتقل لتتبع ظاهرة تتعلق بمجموعة ألفاظ تترابط في ما بينها بعقائد دينية وأحداث سياسية. نكتفي هنا بمناقشة الجانب المتعلق بالألوان وهذا لا يمنع عن تعميم المنهج ليشمل أمور السياسة والدين وغيرها. لقراءة المقالة السابقة إضغط هنا.
ونحن خلال المقالة نسير في خطين متوازيين، الأول يتعلق بدراسة ظاهرة لغوية، كما ظاهرة الألوان التي نناقشها هنا كمثال بحثي، والثاني يتعلق بالتعرف على أدوات البحث المستخدمة في المنهج الإستقصائي لفقه اللغات من خلال تطبيقها عملياً على حالة محددة. وهنا أقدر صعوبة قراءة مقالتي السابقة، وهذا ما شكا منه بعض الأصدقاء، ذلك أن هذا النوع من الدراسة لم يألفه القارئ، خصوصاً مع التشعبات الكثيرة والمربكة للذهن التي تتخلل الشروحات والتي أراها من طبيعة الأمر، حيث أن الألفاظ والمعاني والأحداث تتشابك فيما بينها بطرق معقدة لا يمكن الإمساك بها إلا بعد أن ندرك النظام الذي تشابكت به، وبعد أن نأتيها من طرق مختلفة، وتلك هي غايتنا.
نستهل الدراسة بوضع الاطر والتعريفات ويتبع ذلك مناقشة كل لون على حدة، ثم إنتاج الخلاصة.
يتسائل المفسرون عن سبب تسمية الساحة الحمراء في وسط موسكو بهذا الإسم، ذلك لأن الكلمة الروسية "красная" يمكن تفسيرها بمعنى "الحمراء" وهو الشائع هذه الأيام وأيضاً بمعنى "الجميلة" وهي صيغة قديمة... والتفسيران صحيحان من حيث مدلول الكلمة.
قد يعتقد البعض أن سبب التسمية يعود إلى طلاء جدران الكرملين والأبنية المجاورة باللون الأحمر، وهذا ليس صحيحاً لأن الطلاء لم يكن معروفاً عند بناء الكرملين ولأن البناء الأصلي كان من الخشب وليس من الحجر. إن ما نراه اليوم هو إعادة بناء الكرملين الذي تم على مراحل طويلة دامت لقرون.
والأمر لا يتوقف عند تسمية ساحة في بلد ما، ذلك لأن دلالة اللون لها أبعادها ومعانيها المتجذرة في التاريخ. فجيش روسيا هو "أحمر" ايضاً، وعند تشكيل الإتحاد السوفيتي كانت معارك دموية بين "الحمر" و"البيض"، وراية الإتحاد السوفيتي وحزبه كانت حمراء بعد أن حلت الهزيمة بالراية البيضاء.
للألوان علاقة متينة بالسياسة والحروب والعقائد والديانات والفنون ولا يستثنى منها شأن من شؤون الحياة، وأحاديثنا اليومية لا تخلو من تعابير اللون، نقول ألوان السياسة وألوان الفن وألوان الظلم وألوان الموسيقى، ونرى الإنسان ملوناً... وأظن أن كلمة "لون" ليست مختصة بما يتعلق بأطياف الضوء فحسب وإنما تشمل كل طيف يتخيله إنسان وفي كل مناحي فهمه.
ويبدو أن الربط بين الألوان الضوئية وغير الضوئية قد حدث منذ عصور قديمة جداً مما جعله متجذراً في ثقافة الإنسان، وهذا الربط لا بد أنه قد ترك بصماته وآثاره في تاريخ الأمم.
إن دراسة الآثار اللغوية للألوان لا بد أن تعود بمعلومات ذات قيمة عالية تساعد على فهم المجتمعات القديمة وتقدم تفسيرات جديدة للأحداث المدونة في عصور التاريخ وبالتالي تساهم في إزالة الصبغة "الاسطورية" التي وضعها المستشرقون على تاريخنا.
وأرى أن الأسطورة هي مجرد قفص صنعه المستشرقون لمنعنا من التفكير خارجه، فبابل لم تبنِ ابراجها بالاساطير ولا إرم عاد عندما شيدت قلعة بعلبك أو المصريين عند بناء حضارتهم. علومهم واضحة في آثارهم الحجرية، أما نصوصهم المدونة فيجب أن تقرأ قراءة صحيحة لفهم تلك العلوم.
ونعلم أن القراءة مرتبطة بالحرف الأبجدي أو برسم المقطع الصوتي كما سبق لدى السومريين، وأن ظاهرة إبدال أصوات الأحرف الأبجدية معروفة بشكل مفصل عند اللغوين، ومعروفة بشكلها العام لدى العامة، والإبدال إما أن يكون بالصوت دون مساسٍ بالإعراب مثل حرف القاف بالعربية الذي ينطق بثلاثة أصوات مختلفة بحسب المناطق، أو لدواعي إعرابية مثل إبدال حرف "ج" بحرف "ز" بالروسية. وبسبب ضيق المساحة وتجنباً للتشعب هذه المقالة لا تناقش أسباب ودواعي الإبدال وصيغها الإعرابية.
وإن إبدال أحرف العلة يؤثر على إعراب الكلمة دون المساس بجوهرها مثل "دار" و"دور" و"دير"، وعليه سنعتمد حرف الألف لتحديد مصدر الكلمة وهذا يسهل علينا مقارنة الجذور التي تأتي بصيغ إعرابية مختلفة.
لقد عرف الإنسان الألوان في الطبيعة قبل أن يتقن الصباغ والأرجح أنه وصف الألوان بأسماء الأشياء التي تتميز بها مما يوفر عليه عدداً كبيراً من مفردات اللغة، ويبدو أن هذه العادة مازالت تهيمن على أسماء الألوان حتى اليوم، مثل برتقالي وبنفسجي وسكري وسماوي وكحلي ورمادي، ومن أجل أن يكون المعنى واضحاً بالنسبة للمستمع لا بد أن تكون الأشياء المسمى بها اللون مشهورة ومعروفة لدى العامة.
وعند ابتكار الصباغ كانت الخيارات محدودة من حيث عدد الألوان، وتكاليفه كانت مرتفعة جدأ وليست بمتناول العامة مما أكسب الأقمشة المصبوغة قيمة عالية جداً ودلالة على الفخامة والثراء.
والرايات هي أقمشة مصبوغة استخدمت من قديم الزمان للتعريف عن الشعوب خصوصاً أثناء الحروب وعلى صواري السفن. ولما كانت الرايات تصنع من القماش المصبوغ، فغالباً ما كانت تقتصر على اللون الواحد بسبب بدائية مهن الخياطة والحياكة في تلك الأزمان، ومع ذلك فقد حظيت الرايات بإحترام شديد نظراً لرمزيتها ودورها بالإضافة إلى فخامة المادة التي تصنع منها.
والرايات هي من الأشياء المشهورة التي يعرفها جميع الناس في مجتمع محدد.
ومما عرفته أن شعوب روسيا استخدمت ألوانها بحسب مناطقها فكانت روسيا حمراء وأخرى بيضاء وثالثة ذهبية (صفراء) ورابعة زرقاء وخامسة سوداء.. وربما أكثر من ذلك. هذا الإستخدام الواضح للألوان في تلك البلاد يمنح الدارسين فرصة ثمينة لتتبع آثار اللون عبر التاريخ ومن ثم إنتاج منهج دراسة شامل لكل اللغات ذات الصلة.
يبدو أن أسماء ألوان الرايات لدى الشعوب الروسية تدور ألفاظها في فلك واحد، فأسماء تلك الألوان لا ترتبط بأشياء معروفة مثل البرتقال والسكر، وإنما تتميز بمفرداتها المستقلة عن الأشياء. ونجد نفس الظاهرة عند العرب وشعوب أخرى، وهذه المقالة هي محاولة لسبر أغوار وألغاز تسميات ألوان الرايات، وربما ما ينطبق على ألوان الرايات الروسية ينطبق ايضاً على ألوان رايات شعوب أخرى، وإن اختلفت الطرق والتأويلات فالمنهج يبقى صالحاً للاستخدام.
إن تسمية "روسيا" بمضمونها الحالي تعتبر حديثة الإستخدام نسبياً، فقد سادت تسميات عديدة في تلك المناطق عبر التاريخ، و إستخدام هذه التسمية في هذه المقالة هو لتجاوز عقبات السرد التاريخي الذي لا تتسع له مقالة صحفية. ومع ذلك نقدم في متن المقالة فهماً جديداً لمعنى الكلمة يجعلها صالحة للاستخدام في هذا المجال.
ونستخدم هنا كلمة "ملكي" اختصاراً لجملة مفاهيم ترتبط بها، مثل العلوّ والجلالة والسمو والإمامة والقيادة. والراية هي من الرموز الملكية، وأيضاً ما يلحق بكل ذلك من ربط بالمقدسات الدينية. مثل هذا الإختصار يوفر علينا مشقة الغوص بتفاصيل اللفظ والمفهوم، خصوصاً أن الحكام ومعهم الكهنة ورجال الدين احتكروا لأنفسهم صفات القدسية والجلالة والعلو عن مستوى البشر مما يجعل الغوص في التفاصيل وفصل الديني عن الدنيوي من المهام الشاقة.
فروسيا البيضاء (بيلاروسيا) احتفظت بلونها في إسمها حتى اليوم، رغم أنها بحسب الرواية التاريخية كانت سوداء من قبل، وروسيا الصفراء أُسميت بالقبيلة الذهبية (الصفراء) "Золотая Орда" وهي القبيلة التي حكمت السهوب الروسية حتى عصر إيفان الرهيب، وكانت قبيلة اعتنقت الإسلام في بداية القرن العاشر وتبعت الخلافة العباسية في بغداد، زارها أحمد بن فضلان عام ٩٢٢م ووثق رحلته، واحفادها اليوم هم التتار ومن جاورهم. رايتهم كانت صفراء بلون الذهب وفي وسطها رسم تنين.
وفي القرن العاشر الميلادي تبلورت دولة مترامية الأطراف مركزها في مدينة كييف عاصمة أوكرانيا حالياً وسميت "كييفسكايا روس" يعتبرها المؤرخون بداية ظهور الروس على مسرح التاريخ، وارتبطت جغرافيتها باللون الأسود واعتنق سكانها الديانة المسيحية البيزنطية.
وفي القرن السادس عشر ميلادي انفصلت مملكة موسكو عن القبيلة الذهبية ومنها بدأت تتشكل الإمبراطورية الروسية وبدأ اللون الأحمر يهيمن على انحائها آخذاً مكانة اللون الأصفر.
وفي جوار ذلك كانت الحركة الشيعية تنموا في القوقاز وإيران بالإضافة إلى ظهور الإمبراطورية العثمانية كقوة صاعدة، وهذه المناطق توجهت إلى اللون الأخضر مبتعدة عن اللون الأصفر الذي ميز الدولة العباسية وحلفائها وصولاً إلى القبيلة الذهبية. وتذكر الرواية التاريخية من قبل، أن الأمويين استخدموا الراية البيضاء وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أستخدم الراية السوداء.
ويبدو أن القبيلة الزرقاء ومثلها البيضاء لم تفلح في الوصول إلى رأس الحكم في تلك البلاد، ومع ذلك فإن ذكرها لم ينقطع عنه السرد التاريخي. في هذه الحال، فإن آثار تلك الألوان في التاريخ قد تكون خفيفة وذات تأثير محلي وبالتالي يصعب التحقق منها. لتجاوز هذه العقبة سنلجأ لما هو أقدم في عصور التاريخ وفي جغرافيا مختلفة بعد أن نكون قد ارسينا مناهج البحث ومهدنا الطريق.
إن هذا الوصف السريع لا يستثني وجود ألوان متعددة في كل منطقة من تلك المناطق ولكن يسلط الضوء على اللون المعتمد لدى السلطة الحاكمة وتأثير ذلك في اللغة والعقيدة.
سنتابع على حلقات دراسة الألوان الروسية لوناً بعد لون، نحلل خلال ذلك التركيب اللفظي للكلمة التي تصف اللون، ونتتبع مفهوم اللفظ عبر مراحل التاريخ رجوعاً حتى الأصول الأولى حيث سنجد جذراً واحداً يعود للغة السومريين وقد تفرعت منه الألفاظ لتعبر عن ألوان مختلفة ظهرت على رايات الأمم المختلفة.
-يتبع-
حسام شعبان