ملامح المدرسة الروائية عند خليل بيدس
تأتي هذه المقالة من مقدمة الجزء الثاني من مشروعنا الموسوعي: مجلة النفائس العصرية – دراسة في المحتوى 1908- 1923 – كان الجزء الأول (دراسة في محتوى المجلة – 546 صفحة)، والجزء الثاني ..
تأتي هذه المقالة من مقدمة الجزء الثاني من مشروعنا الموسوعي: مجلة النفائس العصرية – دراسة في المحتوى 1908- 1923 – كان الجزء الأول (دراسة في محتوى المجلة – 546 صفحة)، والجزء الثاني (روايات بيدس المجهولة – 566 صفحة)، وسيكون الجزء الثالث بعنوان (روايات النفائس). وهذا المشروع يبحث عن ممول وناشر، وقد انتهينا من الجزئين الأول والثاني، ونكتب في الجزء الثالث، وجميعها بجهودنا وامكانياتنا الذاتية.
***
يمثل خليل بيدس ريادة الأدب والثقافة في فلسطين، فهو صاحب أول مجلة أدبية (النفائس 1908)، ومؤلف أول رواية فلسطينية (الوارث 1920)، وناشر أول مجموعة قصصية (مسارح الأذهان 1924)، ومن أوائل المترجمين عن اللغة الروسية. وقد شملت جهوده الإبداعية ميادين متعددة من المعرفة والثقافة: التعليم, والصحافة, والترجمة, والقصة, والرواية, والأحاديث الإذاعية. بالإضافة إلى دوره النضالي مع الحركة القومية في مقاومة الحكم التركي والاحتلال البريطاني, ومكانته الاجتماعية والسياسية لدى أبناء الطائفة المسيحية الأرثوذكسية.
يعتبر خليل بيدس مدرسة في الكتابة والترجمة القصصية والروائية، اتبعها العديد من الكتاب والأدباء، وصاغ ملامحها في تقديمه لمجموعته "مسارح الأذهان، حيث عبر عن تصور رفيع لفن الرواية وأبعاده في المجتمعات والأفراد والحضارة، وقد كتب مبيناً أصول هذا الفن الروائي وأهميته قائلاً: لا يجهل أحد ما للروايات من الشأن الخطير والمقام الرفيع بين سائر كتب الأدب عند جميع الأمم، فهي من أعظم أركان المدنية، وفي مقدمة المطبوعات انتشاراً وتداولاً، وأشدها رسوخاً في النفوس والقلوب، وأثبتها أثراً في الأخلاق والعادات، وأعظمها عاملاً في البناء والهدم. لأن فيها تمثيلاً لمظاهر الحياة وصورها، من خير وشر، وفضيلة ورذيلة، وعدل وجور، وصدق وكذب، ووفاء وغدر، وإخلاص ورياء، وهناء وشقاء. وفيها وصف أحوال الأمم، وعبر الزمان، وحوادث الحب والغرام، والحرب والسلام، وما يتخلل ذلك كله من عفة وأمانة، وغدر وخيانة. وفيها عرض حياة الإنسان في جميع أدواره، في ربيع حياته وخريفها، في صعوده وهبوطه، في آلامه وآماله، في سرائه وضرائه، وفقره وغناه، وأهوائه وأشواقه، وسائر أطواره وأحواله.
وحدد بيدس في نفس المقدمة مفهومه للرواية بأنها ذات هدف تعليمي أخلاقي تربوي، إذ قال: "والرواية الحقيقية، الفنية، هي التي ترمي إلى المغازي الحكمية أو الأغراض الأدبية، إلى تمجيد الفضائل أو التنديد بالرذائل، إلى تهذيب الأخلاق وتنوير العقول وتنقية القلوب واصلاح السيرة. وهي النقية من كل شائبة، الخالية من كل وصمة التي تبقي أثراً في نفس القارئ، وتحدوه على التأمل، وتقوده في سبيل الرقي الأدبي والحب النقي، هذه هي الرواية الحقيقية، الرواية الفنية، الرواية الخالدة، لا الرواية المبتذلة المشوهة، التي لم يكتبها أديب، ولم يرسمها قلم روائي مصور بارع.
أما عن قيمة الرواية فيؤكد "أن قيمة الرواية هي في ما تتضمنه من الفائدة وتتوخاه من العبر، وقيمة الكاتب الروائي هي في ما يمثله للقارئ من الحقائق بالأسلوب الفني الشائق.
وقد بين بيدس في مقدمة "مسارح الاذهان" أيضاً رسالة الروائي والشروط التي يجب توافرها في الروائي لكي يكون كاتباً روائياً، بأن يكون لديه اختلاط بالناس ويعرف أحوالهم وتطلعاتهم، وأن يكون لديه قدرة على الوصف والتعبير، يقول: الروائي يكتب للعامة، وهم السواد الأعظم من كل أمة، يكتب للنفوس الحائرة، والقلوب المتألمة، يكتب للنفوس الجائعة، والقلوب الظمأى ... والروائي، إن لم يعاشر العامة ويدرس أحوالهم، أو لم يكن منهم ويعيش بينهم، أو لم تكن فيه قوة التصور ومهارة التصوير وبراعة الوصف، ولم يكن فيه النظرة الأدبية الصادقة إلى كل حادث، والارتياح التام بل الكلف التام ببحثه، وإن لم يسر بعمله على الدوام إلى الأمام، إلى أعلى درجات الكمال، ولم يكاشفه الإلهام والوحي والنبوة، فليس بروائي عبقري. وهو إن لم يقرأ مئات الروايات، ومئات التواريخ، ولم يطلع على حوادث الكون، ويلج كل مجتمع، ويدرك معنى الحياة وأسرارها وأساليبها، وينتزع غرض روايته من حوادث الحياة وطبيعة الإنسان، ويجعلها منطبقة على الحقيقة والواقع، فليس بروائي متفنن. وهو إن لم يكن نبياً يرى ببصيرته ما لا يراه غيره، وإن لم يكن شاعراً يحلق في سماء الخيال، ولم يكن عالماً اجتماعياً يعلم الأحوال ويطلع على كل شأن من الشؤون، فليس بروائي ماهر. فالروائي الحقيقي العبقري المتفنن الماهر هو الذي عاش للفن، وكتب للفن، ومات في سبيل الفن".
ويدعو بيدس في مقدمة "مسارح الأذهان" الكتاب والأدباء إلى الاستفادة من التجارب الروائية الغربية، ونقلها إلى الآداب العربية لما في ذلك من فائدة في الرقي الأدبي، ويشير إلى أن أكثر الأعمال المنشورة هي منقولة عن الآداب الغربية، ولم يتصد للتأليف إلا نفر قليل، لذلك يؤكد على مسألة الاختيار في تعريب الروايات يقول: "ولا يخفى أن الفن الروائي في الغرب طافح بالحسنات، وقد سبقنا الغرب بذلك مراحل كثيرة، ففيه من الروائيين المتفننين مئات وألوف، وهم أساتذة الفن بلا جدال، فإذا نقلنا عنهم، أو نزعنا إلى أسلوبهم، فإنما نزيد آدابنا ثروة وجمالاً، ونزيد كتابنا أسلوباً واطلاعاً وفناً، ولكن لنراقب الله في كل ما ننقل أو نؤلف، ولنسر بالفن الروائي إلى الأمام، إلى الكمال، ولا نقدم إلى الأمة إلا أفضل ما يقدم من هذا الغذاء الروحي الطيب.
وقد اهتم خليل بيدس اهتماماً كبيراً بنشر الروايات في مجلته "النفائس" منذ عددها الأول، وقد أشار في مقدمة العدد الأول إلى ذلك بقوله: "فلا يخفى ما للروايات على اختلاف مواضيعها من التأثير الخطير في القلوب والعقول حتى اعتبرت أنها من أعظم أركان المدنية بالنظر إلى ما تستبطنه من الحكمة في تثقيف الأخلاق، وما تنطوي عليه من العبر والمواعظ في تنوير الأذهان، ولما كان لها هذا المقام الرفيع، وكان لجميع الطبقات من خاصة الناس وعامتهم شغف بأمرها، وإقبال غريب عليها عقدنا النية على إصدار هذه المجموعة نضمنها من الروايات الأدبية والفكاهات العصرية، وغير ذلك من النوادر واللطائف ما يتوق إلى مطالعته والتفكه بتلاوته كل أديب". وقد كان بيدس دائم التأكيد في مقدمة سنوات مجلته على مسألة نشر الروايات، فنجده يقول في مقدمة السنة الثانية: "ينشر منها (يقصد الروايات) في كل جزء رواية أو أكثر من الروايات الصغيرة التي تبدأ وتختم في نفس الجزء، ورواية كبيرة متسلسلة في جميع الأجزاء، وستكون كلها من أحسن ما كتب في هذا الموضوع فكاهة وأدباً وفائدة.
وبناء على هذه الرؤية التي وضعها في مقدمة "مسارح الأذهان"، وفي مجلته "النفائس العصرية"، بدأ في نشر الروايات المعربة والمؤلفة على صفحات مجلة النفائس العصرية، ثم يطبعها في كتاب مستقل. بدأ من العدد الثاني من السنة الأولى في نشر روايته المعربة (شقاء الملوك) على حلقات، وواصل نشرها حتى نهاية السنة الأولى في تشرين الأول سنة 1909م. وهي رواية اجتماعية عمرانية، كما نشر تحتها، وقال في تقديمها: "هذه الرواية تتضمن من العبر والحكم تحت ثوب اللهو والفكاهة ما يجعلها من أنفس الذخائر، فإنها تمثل بأسلوب شائق حالة الملوك ونسبتهم إلى الرعية وواجباتهم نحوها، ونسبة الرعية إليهم وحقوقها عليهم، وما يتصل بذلك من شؤون الملك وأحوال رجال الدولة والبلاط وقوة الشعب، بصور مختلفة تنطبق على الحقيقة، يتخلل كل ذلك حوادث مشوقة، ومباحث فلسفية اجتماعية يستعذبها السمع ويتعشقها الطبع. ألفتها ماري كورلي الكاتبة الانكليزية الشهيرة، ونقلتها "ز. جورافسكايا" إلى اللغة الروسية بعنوان (تحت نير السلطة)، فلخصتها أنا من الروسية باسم (شقاء الملوك)، وتصرفت فيها بزيادة واسقاط وتغيير وابدال وتبويب وغير ذلك، لتوافق ذوق القراء".
وقد تعود قراء مجلة النفائس العصرية أن يهدي إليهم محررها خليل بيدس في ختام السنة رواية جديدة، ففي ختام السنة الثانية في تشرين الأول سنة 1910م، قدم بيدس للقراء رواية (أهوال الاستبداد)، وهي رواية معربة عن الروسية للكاتب الروسي "الكسي تولستوي" واسمها الأصلي (الأمير سيريبرياني). يقول في تقديمها: "وهي من خيرة الروايات الأدبية لما تتضمنه من العبر والحكم في تثقيف الأخلاق وتنوير الأذهان، وحث النفوس على الكمالات الإنسانية، فضلاً عما تنطوي عليه من الحقائق التاريخية والوقائع المؤثرة والحوارات المشوقة إلى غير ذلك مما يتفكه به المطالع، ويستفيد منه المتأمل بصيرةً وعلماً. ومما يدل على شهرتها في عالم الروايات أنها ترجمت إلى أكثر اللغات الإفرنجية كالفرنساوية والنمساوية والإنكليزية والبولونية والإيطالية وغيرها، وحازت بين سائر الروايات مقاماً رفيعاً ومنزلةً سامية. ولقد تصرفت في تعريبها بزيادة واسقاط وتغيير وابدال وتبويب لتكون متوافقة لذوق قراء العربية، واسميتها "أهوال الاستبداد" لما يراه المطالع فيها من الاستبداد والجور والعسف والظلم وغير ذلك من الفظائع والكبائر التي تعافها الإنسانية. أما اسمها الحقيقي "كنياز سيريبرياني" أي "الأمير سيريبرياني" وهو أحد أبطالها". وقد نشرت الرواية لاحقاً في كتاب مستقل عن المطبعة الوطنية بحيفا.
وفي السنة الثالثة 1911م نشر رواية (الحسناء المتنكرة)، وهي رواية تاريخية غرامية، تتضمن تفاصيل المواقع الحربية التي نشبت في جزيرة قبرص بين الأتراك والبنادقة على عهد السلطان سليم الثاني، والرواية من تأليف الكاتب الايطالي "اميل سلغاري". تقع الرواية في أصلها في 263 صفحة، وحين عربها جاءت في 88 صفحة، وهو بذلك لم يخالف جوهر الرواية، بل عمل على اختصارها بشكل كبير، لكي لا يمل القارئ، ولا تزيد الرواية عن الفراغ المعين لها في المجلة، كما يقول.
وفي السنة الرابعة 1912م نشر رواية (هنري الثامن وزوجته السادسة)، في جميع أجزاء المجلة من السنة الرابعة، وأتمها في السنة الخامسة 1913م، وقد طبعها في كتاب مستقل عن مطبعة دار الأيتام السورية بالقدس. يقول في تمهيد الرواية: "في هذه الرواية تفصيل لأشد وقائع الخلاف (بين هنري الثامن ورجال الدين حول طلاقه وزواجه)، وتاريخ اقتران الملك هنري بزوجته السادسة، وذكر زوجاته الأخر، وما تخلل كل ذلك من الحوادث والعبر والغرام. وهي من وضع "ف. ملباخ" الكاتبة الألمانية المشهورة، فعربناها عن اللغة الروسية ببعض تصرف".
وفي السنة السادسة 1914م نشر رواية (العرش والحب)، وهي رواية تاريخية غرامية، تمثل حالة روسيا في عهد بطرس الأكبر، وتصف حياة القيصر وأحواله وأعماله ووقائعه الغرامية والحربية، وأحوال روسيا في عصره.
وفي سنة 1920 بدأ ينشر روايته المؤلفة "الوارث" على صفحات مجلته، وهي رواية اجتماعية غرامية تاريخية، تتضمن وصف كثير من حوادث الحياة الاجتماعية وما يتوسل به بعض الناس فيها من ضروب المكر والدهاء إلى غير ذلك، وقد بنيت على حادثة وطنية وقعت وتقع أمثالها في هذا الشرق كل يوم بل كل ساعة، وهي طمع اليهود وغدرهم، ومزجت حوادثها ببعض حوادث الحرب الكونية الأخيرة". ثم نشرها في كتاب مستقل عن دار الأيتام السورية بالقدس 1920.
كان بيدس يركز على تعريب الروايات التي تعبر عن القيم الاجتماعية والسياسية والتاريخية، وهذا ما يتضح في تقديم رواياته المعربة، حيث عبر عن أسلوبه في التعريب ورؤيته للروايات المعربة بأنها "تتضمن العبر والحكم في تثقيف الأخلاق وتنوير الأذهان، وحث النفوس على الكمالات الإنسانية، والحقائق التاريخية والوقائع المؤثرة". وقد تميز أسلوب خليل بيدس في الترجمة والتعريب بأن يذكر اسم المؤلف واللغة التي ترجم عنها النص الروائي، ورغم تعامله مع النص بالتحوير والابدال والتغيير إلا أنه لم يخرج عن جوهر الرواية من حيث الأحداث والأماكن والشخصيات.