نشأة العدد بين الحقيقة والدين وفلسفة القدماء.
مع وجود الأشياء وقبل تطور اللغة وجد عددها وبات الأداة الأساس في تطور علوم البشر ومعارفهم... كيف سميت الأعداد؟ وما هي الفلسفة التي ارتكزت عليها، أو بالأحرى إنبعثت منها؟
البحث في تاريخ أصول الديانات ليس من أهداف دراستنا الراهنة، ولكن ثمة أمر واحد لا يمكن التجاوز عنه، ذلك أنه اساس لكل شيء. إنه العدد الذي نعد به الأشياء، والذي لا بد إلا أن يبدأ من الواحد، فالأعداد كلها ليست إلا تركيباً من الواحد مضاف إليه واحد آخر عدد من المرات، بحسب الحاجة. فالاثنين ليست إلا واحداً مضاف إليه واحد آخر، والثلاثة هي واحد يضاف إلى الإثنين وهكذا...
إن ما نراه هو هيمنة الثنائية على الكون، فالليل يقابله النهار، وهو يثنيه عن أن يكون واحداً منفصلاً وفريداً، إما يكونان معاً أو يفنيان معاً، والذكر تقابله الأنثى، والسالب يقابله الموجب، والكبير يقابله صغير وهكذا... لكل وضع قرين.
نستنتج أن الكون قائم على ثنائية النقائض المتعاكسات أو القرائن المتشاركات، ولا عدد للنقائض يفوق الإثنين... وهذا ما يعطي العدد إثنين ميزة تقارب ميزة الواحد الذي لا عدد بدونه، وهي ميزة الثنائية التي لا كون بدونها.
وحتى في أدق الأمور، في فيزياء الكم مثلاً، نرى حالتين مختلفتين لفوتون الضوء المنبعث من شعاع واحد ومتفرع في اتجاهين مختلفين، وهي ظاهرة التقارُن بين الجزيئات، أي أن لكل جزيء قرينه المختلف عنه، مهما بعدت المسافة بينهما، فإن أخذ الأول حالة يكون الثاني في الحالة الأخرى في نفس اللحظة من الزمن.
وكل إثنين مختلفين ومرتبطين بعلاقة يشكلون زوجاً، وهم شركاء بتلك العلاقة. زوج الأحذية تختلف فردتاه واحدة يمنى والأخرى يسرى، لكنهما متشابهتان تناظرياً ومتشاركتان بأداء ذات الوظيفة.
أما ما يفوق الإثنين من العدد فهو عدد للمتماثلات وليس عدد نقائض، فثلاث إناث أو اربعة ذكور هو تعداد لأشياء متماثلة بصفة قد إتُخذت أساساً للعد، وتعدادهم معاً ذكوراً وإناثاً هو سبعة من الناس، لأن صفة الناس هي صفة متماثلة على الذكر وعلى الأنثى.
وإن اللغات التي تعتمد صيغ المفرد والمثنى والجمع لا بد انها اعتمدت على هذا الفهم للعدد في بناء صيغها الاعرابية. ثالوث الصيغ هذا سيكون له أثر كبير على الدين والفلسفة.. على الأقل هذا ما سينتج عنه ما ينسب لأفلوطين عن الواحد والانبثاق والنفس (الواحد مفرد، ولما ينبثق عنه الفيض يصبحان إثنان في زوج واحد، والأنفس المخلوقة كثيرة العدد) ، ذلك أن من نقلوا لنا عن افلوطين لم يفهموا اللغة العربية (أو أمهاتها)... ولا علم الحساب... أو أن افلوطين نفسه لم يفهمها.
كل ما قلناه سابقاً وإن فسر لنا معنى العدد، هو لم يفسر لنا معنى الواحد الأحد، ذلك أننا لا نجد في الكون واحداً لا ثاني له، سواء أكان الثاني مثيلاً أو نقيضاً.
بكلام آخر، كل واحد في الكون هو ليس واحداً بذاته الفريدة الوحيدة، إنما هو واحد بإنفصاله أو بتميزه إما عن مثيله أو عن نقيضه الذي يثنيه عن الأحودية المنفردة بذاتها، إذن هو واحد بصفته جزءاً وليس بصفته كُلّاً.
والبديهة هنا تقول، أن الواحد الذي لا شريك ولا ثاني ولا مثيل له وليس جزءاً من شيء وكل الأشياء هي جزء منه، لا بد أنه كائن في ما لا ندرك إلا طرفاً يسيراً منه، ولا بد أنه بداية كوننا وأساس وجوده.
الواحد الأحد هو الأكبر الذي منه كل الأشياء، والأشياء هنا ليست فقط المادة الساكنة، ولكن المادة مع كل ما تتأثر به من قوى وعلاقات محكومة بزمان يكوِّن تاريخاً لا متناهياً ولا تعرف له بداية، ناهيك عن النهاية. كل هذا مجموعاً في واحد هو بلا شك يتعدى حدود قدراتنا على الإدراك. وسبب ذلك بسيط إذ لا يمكن للجزء الذي هو ادراكنا أن يحتوي الكل.
كل ما ورد هو كلام بسيط، لا يحتاج إلى تكنولوجيا أو أدوات معقدة لفهمه، وبالتأكيد فقد كان بإمكان أي شخص سومري أو بابلي أن يقوله إن أعمل فكره قليلاً... وإن كان السومري راعياً للغنم أو متأملاً للنجوم فقد كان لديه الكثير من الوقت لفعل ذلك.
والسومريون قد عرفوا الحساب، ودرسوا أفلاك النجوم وحسبوا الشهور والسنين، ولم يعجزوا عما قلنا أعلاه، بل إنهم قد أطلقوا أسماءً على ذلك الواحد الأحد الذي لا شريك له ومنه انطلقت الأزواج المعدودة كلها، فكان إسمه "إل" و"إله" و"الله" عبر رحلة القرون، الذي هو علة العلل وسبب الأسباب ومُظهِرَ العدد... وربما أن ما كان بلهجتهم "الإله" "هدد" هو ما صار بلهجتنا "عدد".
تقول ويكبيديا: "هدد (بالأوغاريتية: للل????????????) أو بعل هدد أو أدد هو أحد أهم آلهة الهلال الخصيب إذ انتشرت عبادته بين شعوب المنطقة من شمالها وإلى ساحلها مرورا بدمشق وحتى بلاد الرافدين، وقد كان هدد إلهًا للعواصف والأمطار أو إلها للطقس إذ تذكر الأساطير القديمة عنه بأنه كان يتجول على متن عربته في السماء ويجلد الغمام بالسوط لتتساقط منها الأمطار بينما كان ثوره يزمجر مسببا صوت الرعد الذي يهز أركان الدنيا."
تختلف آراء المسلمين في ما يخص الصلاة الكمالية (اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله عدد كمال الله وكما يليق بكماله). بعضهم يتخوف من وقوع المؤمنين في وهم أن ينحصر كمال الله وصفاته بعدد، وآخرون يقولون أن معرفة عدم تناهي كمال الله وأسمائه وصفاته تكفي لعدم الوقوع في الوهم. (ننوه هنا أن ال"عدم" هو لا شيء، وحيث لا شيء لا "عدد").
عدم تناهي العدد أصبح من بديهيات علوم الحساب الحديثة وله رمزه الرياضي الخاص وطرق حسابه في المعادلات الرياضية. ما يهمنا في هذا الشأن هو الإشارة إلى أهمية العدد في الإعتقاد الديني القديم والحديث، ومدى إرتباطه بالإيمان بالله.
بالمفهوم الحسابي، كمال الله هو مجموع لا متناهي العدد من الصفات والأسماء. أي هو المجموع الشامل للكل، مع التذكير بأنه الواحد الأحد.
في لهجتنا المعاصرة تترابط معاني التعداد مع معاني التهديد والتحديد والوعيد، نقول هدَّد زيد عبيداً، أي عدَّد له ما سيلاقي من عواقب، وتلك العواقب هي وعيد زيدٍ لعبيد. وحدَّد زيد لعبيدٍ حدوداً، أي عدَّد له حدوده. وإن هدده، فذلك وعدٌ أن يضع له حدّاً...
كاتبو التاريخ يقرأون إسمه "هدد" و"حدد" و"أدد" ولم اصادف من يقرأه "عدد"، أو من يقرأه "أحد". ولما كانت الحروف تقلب مكانياً في اللهجات القديمة فمن الممكن أن يكون "أدد" هو "دَأد" الذي منه تشتق صفة "داؤد" الوارد ذكره في التوراة.
إن العدد كان من أهم إنجازات القدماء وكان أساساً وسبباً واداة مهمة لتطوير علومهم وصناعاتهم ولا بد أنه قد حظي عندهم بمكانة مرموقة واستحق التبجيل.
إن ما لحق بشخصية "أدد" من تحوير عبر التاريخ ما هو إلا نسج خيال الكتبة منذ القدم وإلى يومنا. فحكمة داؤد وبراعته في عزف الموسيقى، حسب الرواية الدينية، هي آثار باقية تظهر لنا تأثير العدد في معرفة الإنسان وتطوير مهاراته وفهمه للطبيعة التي يعيش فيها. وقصة داؤد مع الموسيقى ليست إلا تعبيراً عن ادراك الرواة القدماء للطبيعة العددية للموسيقى سواء من ناحية عدد نغماتها السبع المتكررات رغم اختلاف غلاظة الصوت والتي منها جاء الأسبوع في سبعة أيام تتكرر رغم مرور الزمن، او من ناحية عدد نقرات الإيقاع المتكرر الذي يؤسس لتتابع نغمات الصوت... هو نظام لا يستقيم بلا عدد وهو أيضاً نظامٌ داؤد، أي ذو عدد.
بالعودة إلى سابق طرحنا نجد أن الواحد الأحد مستحيل الوجود إن لم يكن حاوياً لكل الأشياء في الكون ولا قرين له، ونجد أنه أكبر من الموجودات كلها، ونجد في نفس الوقت، أن الواحد المتعدد هو أساس تعداد كل الأشياء في الكون وهو أصغرها، هو جزء من الواحد الأكبر وقد اصطلحنا تسميته واحداً بعزله عن غيره من أجزاء الواحد الأكبر، أي باعتباره كوناً مصغراً منفرداً مستقلاً، لكن في نفس الوقت جامعاً لما فيه من أجزاء. إن غياب هذا الفهم عن الأذهان هو ما جعل فهمنا للعدد مضطرباً.
الصواب بحسب قواعد اللغة العربية أنَّ نِصْفَ الاثنين هو الإثن وليس الواحد، والوثنية هي نقيض التوحيد لأن فيها تعدد المعبودات. مع ذلك إذا ما عزلنا إثناً وأفردناه يكون الإثن واحداً لما فيه، أي جامعاً لما فيه من أجزاء.
الشيء، بصفته جزءاً من مجموع أجزاء لشيء أكبر منه نعده إثناً، وبصفته جامعاً لأجزاء أصغر وكلها محتواة فيه نعده واحداً.
الإثن هو جزء من أجزاء متماثلة ذات صفات مشتركة تجعله قابلاً للعد على أساسها كقولنا في السلة ست ثمرات، أي ست آثانٍ لها صفة الثمر.
الجزء هو الشيء يؤخذ منفصلاً عن مجموع اشياء ارتبط معها بعلاقة أو صفة.
يجدر هنا أن نلاحظ أن العدد إثنين لا يسمى بالعربية بلفظ خاص به مثل باقي الأعداد، وإنما يصاغ بصيغة المثنى من الإثن.
وأن كلمة "أول" ليست مشتقة من كلمة واحد ولا من كلمة إثن، بل من كلمة إل التي تحولت إلى إله والله. يستحق الجذر "آل" بحثاً مستقلاً نتركه للغويين، منه الإله والآلة والعائلة... وأولُ الشيء بدايته... وأولَ الشيء فسره. وكان الله هو الأول الباديء والمبدي، منه كانت البداية والنشوء وهو مفسر الأشياء أي مالك سرها.
ما تقدم يمهد لفهم الثواليث، إذ أننا بتنا أمام ثالوث ديني فيه الواحد (الجامع والأحد) والإثن (المفرد المتعدد) والإل (إيل) المتحكم بالاشياء ومحركها. الواحد هو الآب، والإثن هو الإبن والإل هو الروح القدس. الآب والإب (النون لم تسقط سهواً)... والروح الذي هو يد الآب التي تحرك الإب (الآب هو الفاعل والإب مفعول به).
وبالعربية كلمة ثانية (جزء من الدقيقة) جائت من إثن وليس من العدد إثنين، ومن المصدر "ثن" ومعناه وحدة صغيرة... هي ثانية لأنها متعددة مكررة مع قريناتها تثنيهم عن الأحودية ويثنونها.
ولو خرجنا قليلاً إلى الانكليزية ستجد كلمات مثل، thin دقيق أو رفيع، thing شيء، thank you الثناء عليك.
ثم بالعودة إلى العربية، كلمة شيء يمكن أن تلفظ ثيء وتكون مساوية ل"ثنء" (thing)، أو إن شئتم تكون مثاوية لها، أقصد مثانية لها... وإن ثئتم فالمعنى نفسه لأن الثيء والشيء "واحد".
نُشرَت مؤخراً دراسة للدكتور علي أحمد الباحث في التاريخ واللغات القديمة تناقش صيغة BA السومرية، يهمنا من هذه الدراسة أن نقتبس الترابطات بين الألفاظ السومرية والأكدية وصولاً إلى العربية. تترادف صيغة "با" السومرية والتي تحمل معنى "النصف" مع صيغة "مِشلو" (مِثلُ) الأكدية، وقد استنتجنا من ذلك أن النصف هو "مثلٌ" للنصف الآخر، وقسمة الأشياء إلى نصفين هو قسمتها إلى مثلين.
وأرى أن ثمة رابط بين "الإثن" و"المِثِل"، فالإثنان هما مثلان (نصفان متماثلان)، وما داما كذلك، فهما بوصف الباحث أحمد علي "بواء" بالعربية، أي سواء ومتكافئان. أي أنهما زوج نصفه مثل النصف الآخر.
هكذا ترتبط صيغة "بواء" العربية ومعناها متناصفين (من الإنصاف وبمعنى سواء) بصيغة "با" السومرية ومعناها "نِصْفٌ" وكذلك بِ"مِشلُ" الأكدية و"مِثلُ" العربية كون النصفين أمثالاً لبعضهما... وال"مثل" ترتبط بالإثن لأن النصفان إثنان متماثلان، ومن ال"إثن" الوثن اي التمثال (من مِثلُ) أو النصب (وجمعه أنصاب) الذي يعود بنا إلى النصف بسبب تبادلية حرف البا مع حرف الفا.
ومع أن الأشياء تقسم عادةً إلى نصفين، فهي نقسم أيضاً إلى نصائب عديدة بحسب الحاجة لينال كل فرد نصيبه المنصف. إن هذه الجدلية بين الألفاظ ما زالت مستعصية على الدارسين ونرى فيها منطقاً رياضياً متواتراً لم تكتشف أسراره القواعدية بعد.
وكلمة "نفس" و"صنف" هي من متحولات كلمة "نصف".
وبالخروج قليلاً نحو لغات العجم ننوه بكلمة binary ومعناها زوجي وأصلها اللاتيني bis، وهي بلا شك تعود بأصلها إلى صيغة "با" السومرية و"بواء" العربية.
وإن كانت bis تعود أو تقود إلى bit اي الجزء الصغير.. وبِت هو الحرف الثاني في الأبجدية وهو أساس العد الثنائي الحديث، والبِسْ هو القط بالعربية أي الصغير.. وفي لهجتنا المحلية نطوي الأشياء إلى بتّين.. وفيها أيضاً البَت في الأمر.. أي حله والحكم فيه بمعنى أن الأمر والبَتَّ فيه هما زوج متكامل، (حفاظاً على السياق لن أدخل هنا في معالجة صيغة zâzu الأكدية الواردة في دراسة الباحث أحمد علي وارتباطها بالجزء والزوج فهذا يسير إذا ما اتبعنا القواعد)... كل ذلك يقودنا إلى استنتاج الأساس الحقيقي للعدد.
كلاهما الإثن والبت هما أجزاء صغيرة وهما ركنا الزوج الواحد ونصفاه، وهما صنفنان متساويان متكافئان (صنوان) مع احتفاظ كل نفس منهما بميزتها الخاصة. وفي العدد ميزة الإثن أن يأتي أولاً والبت يؤاخيه ويزاوجه، أي يثانيه... في الحذاء نقول بتة اليمين أو بتة اليسار، أي أنها النصف الآخر ضمن زوج متكامل، ولا نستعمل كلمة "بتة" للاشياء التي ليس لها نصف آخر، بينما الإثن يمكن أن يكون منفرداً دون حاجة لنصف آخر.
وفي تقنية الحواسيب البت (bit) يأخذ قيمة من إثنتين إما الصفر أو الواحد.
هذا يذكرنا بما ذهب اليه أفلوطين بالقول أن الواحد الأول لا بد أن يفيض وينبثق عنه الفيض... ليتشكل لدينا ثنائي الواحد والفيض وذلك ما يسمى بالإنبثاق.. وأن الفيض لا يُنقِص الواحد الأول ولا ينفصل عنه.. وتفسير ذلك أن أفلوطين ما كان يتحدث إلا عن الزوج الذي فيه إقتران الإثن مع البِت.
لم أعد أهتم بالقواميس، فلا أرى صحة لبعض ما يقولون في تفاسيرهم مؤلفيها، لذلك اعتبر كلمة "إثنية" (بحسب ويكيبيديا، هي فئة من الناس الذين يُعَرِّفون بعضهم البعض على أساس أوجه الشبه مثل السلف، اللغة، المجتمع، الثقافة أو الأمة)، أعتبرها كلمة عربية رغم رحلتها إلى اليونان وغيرها ثم عودتها إلى العربية. هي فئة من فئات بشرية كثيرة إذن هي إثن من إثنات أو آثان البشرية العديدة.
وال"فئة" تذكرنا بال"إفن" وجمعه أفنان، وهو الفرع أو الغصن، والفرع لا شك هو جزء من الكل. إذن، فالإثن والإفن هما صنوان، أي صنفنان متكافئان أو ربما هما نصفان يُنصف (يعادل) أحدهما الآخر.
يظهر لنا أن الإفن هي الصيغة الأسبق للإبن كون الإبن هو فرع عن أبيه، ومن الأفن (همزة فوق الألف) الذي هو الأب والأصل يكون اشتقاق ال"أون" (استبدال الفا بالواو) أو تحورها إلى "وان" بمعنى الواحد في لغات العجم. وهنا يظهر معنى الواحد على أنه الأفن الأصل والأول.
الإثن هو الجزء المنفرد عن المجموع والأثناء (جمع إثن) تتماثل في صفاتها رغم اختلاف كياناتها وانفصالها عن بعضها. والإثن واحدٌ (جامع) لما فيه وليس أحداً لا ثاني أو لا شريك له. ومن هنا دقة التعبير عند المسلمين فالله هو واحد (جامع لكل شيء) احدٌ (لا ثاني ولا شريك له).
والإثم هو المقدار المعدود والمكافئ والمساوي للخطيئة. والثمن هو المقدار المعدود المكافئ للسلعة (شَلعة)، والثقل او الشقل والشمل والشّلة والسّلة والشريك والشرط.. الخ من تلك الألفاظ التي تدور في فلك واحد، أترك عبئها للغوين على نفس القاعدة.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}. لم يكن له "كفواً" أي لا ثاني ولا شريك له. والكفو أو الكفؤ من الكفء التي نجيز قرائتها ب"إفء" ونراها مصدراً ل"إفن" التي تعادل "إثن" كما قلنا سابقاً.. منها نقول أن لا ثاني له. ولأن الإفن هو الفرع والإبن هو فرع أبيه يصح أن نقول "ولم يكن له ابناً أحد".
الوجود والعدم من أهم القضايا التي تناقشها العلوم والأديان على مختلف فلسفاتها، ودون الوصول إلى نتيجة حاسمة.. واللغة لم تطرح المسألة على هذا النحو من الإصطلاح بكلمات "وجود" و"عدم"، لكن تطرحها من باب الكون والفَناء، والفِناء يوصف بال"عدم" لأن لا "عدد" فيه.
فإن "كان" الشيء فحيث يكون هو المكان، وإن فني الشيء فلا مكان... وحيث لا شيء كائن هو فِناء. وفي الفِناء تكون الأشياء وتتفرع أفناناً في كون واحد جامع. ومع كل إفن يقترن إثن واحد (جامع) لما فيه من أفنان الأفنان.
وكون الشيء في الفِناء بعد أن لم يكن، هو خلقه، وفَناء الشيء، هو بطلان كونه ومكانه.
قال تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). سورة النحل 40
ما تقدم يضعنا أمام الشجرة الثنائية للكون، في كل فرع من فروعها زوج من إفن وإثن، وهما صنوان لا يفترقان وإلا لما كانت حركة الأشياء. فالحركة هي فَناء الشيء من مكانه وإعادة تكوُّنه في فِناء آخر.
هذا يفسر بوضوح معضلة فيزياء الضوء، فإن كان الإثن هو الفوتون فحركته كجسم في خط مستقيم محكومة بنظرية الشعاع، وفي ذات الوقت، فناء الفوتون وإعادة تكوُّنه تكراراً محكوم بنظرية الموجة.
والفيزيائيون يقولون أن ليس للفوتون كتلة، أي هو مجرد فِناء لا شيء فيه....
كلمة فوتون هي من أصل يوناني عتيق "فاوس"، من معانيها إشعاع وضوء، ربما منها كلمة فيض التي قادت أفلوطين إلى نظرية الفيض، او الإنبثاق، حيث أن "فا" هي مصدر كلمة الإفن الذي فيه ينبثق (يتكون) الإثن.
وعاصمة الإغريق هي "أثينة" بسبب ما شملته من أوثان عديدة (وهي بنظر الموحدين أثيمة وبنظر المعجبين شاملة). أو ربما هي أثينة بسبب مجلس نوابها الذي اجتمع فيه الأثناء (جمع إثن) وهم متماثلون بصفتهم نواباً وعديدون.. والعد لا يكون إلا للمتماثلات أو المثنيات المقترنة ببعضها كما ذكرنا سابقاً. أو ربما هي "أثينة" بسبب تعدد طبقات الناس فيها وتنوعهم... أو ربما بسبب كل ذلك مجتمعاً وغيره كمذهب تنظيم مجتمعي كان مطبقاً على جميع المستويات... كان ذلك نظاماً محكماً أنتج حضارة مميزة وإستحق أهله الإفتخار به. أثينة هي مدينة التعدد والتنوع وجامعة الأثناء وإتحادُ الأنصاب (أصنام الآلهة).
وإن كان ثمة رب دون الرب الأعلى، الواحد الأحد، المهيمن المسيطر... فذلك الرب الدوني لا يمكن أن يكون واحداً أحداً منفرداً في صفاته، لأنه بطبيعة الحال قد جاء ثانياً ومثنياً عليه ولم يكن أولاً... ولكنه ليس ثانياً للرب الأعلى بل هو جزء منه وهذا قول الصوفية بأن كل ما كان هو من الله، وهو أيضاً قول الهرمسيين...
ولما كانت سنة الكون هي زوجية الموجودات فلا بد للرب المُحدَث من قرين يثانيه ويحجب عنه صفة الوحدانية، وفي نفس الوقت يكون له من الصفات ما يوازي صفات قرينه الرب المُحدث وإن بطبيعة أخرى... ذلك هو الروح القدس الذي له صفة الإتصال بالربين الأعلى والأدنى.. هذا ما ذهب إليه الآريوسيون في بداية ظهور المسيحية حيث قالوا ان المسيح عليه السلام هو مخلوق كما الروح القدس.
أما من خالفهم فقد اعتقدوا أن لا كون لواحد أحد، بل الله هو واحد مزدوج الطبيعة، فيه واحد بصفة الأب وآخر بصفة الإبن. ولما لم يجدوا تعليلاً للروح القدس الذي كان قد ترسخ في المفهوم الديني ولا مجال لتجاهله قاموا بضمه للواحد المزدوج ليحصلوا على ثالوث مقدس في أقنوم واحد.
إن المعضلة بين الطرفين تتخلص في أن الواحد الأحد إن كان ذو طبيعة مزدوجة لا يكون واحداً احداً قائماً بذاته، بل تكون طبيعته من طبيعة الكون الذي لا يقبل إلا الازدواج، وبالتالي من المستحيل أن يكون هو الخالق للكون. وهذا ليس بحثاً غيبياً يستدعي التسليم به ايماناً ودون نقاش، بل هو بحث علمي يسعى إلى فهم الوجود وما خلف الوجود، أساسه فهم العدد كمادة أساسية لعلوم الحساب التي تقوم عليها كل العلوم الأخرى، ولا يمكن أن تقوم بدونها. ولكن دائماً كلما وصلت الأمور إلى أيدي الحكام وحاشياتهم تتحول العلوم إلى مناسك غيبية لا تلبث بعد مدة أن تدخل في باب الأساطير.
وقد ذهب المتصوفون مذهباً عميقاً بعد أن وصلوا إلى مرحلة الكشف وانقشاع رؤيتهم، فقالوا بوحدانية الخالق والمخلوق معاً، أي أنهما زوج مقترن طرفه بالطرف الآخر، فلا خالق بدون مخلوق، ولا مخلوق بدون خالق... حتى قال إبن عربي "ما في الجبة إلا الله"، يوافقهم في ذلك الهرمسيون أيضاً.
والإسلام قد حسم الأمر بكلام عربي بسيط فالله روح قد شائت، وكل شيء هو خلق الله. كل شيء هو كائن بزمان، والكون مع الزمان زوج وصنوان، والروح واحد لا شريك له.
بمثل هذا الجدل ينحى الدين بعيداً عن أصوله العلمية بإتجاه الأسطورة حيث التحوير وغياب البرهان. وللعودة إلى الأصول العلمية لا بد من الحفر أكثر في أعماق التاريخ. فإن كان الله هو واحد أحد لا ثاني له فما حاجة الناس لإبن له؟
إن علوم القدماء لا تختلف عن علومنا، بل أن إستخدام اللغة هو ما بات مختلفاً. اليوم نقول أن المادة هي أساس الكون.. ونقول ان وجود المادة مرتبط بمكانها وزمانها وبدون ذلك يستحيل وجودها. إذن نحن أمام ثالوث الكون، المادة والمكان والزمان، فإن قلنا أن المادة هي الإله والمكان هو إبن المادة والزمان هو روحها.. فلا بد أن نخوض ذات الجدل الديني المعروف، ولا بد أن نسأل إن كانت المادة سابقة في وجودها للمكان والزمان أم هم أقنوم واحد ولكن لكل منهم طبيعته الخاصة؟ وهل المادة ازلية وأبدية أم غير ذلك؟ وهل عددها متناهٍ أم هو محدود؟
ويجدر هنا أن نلتفت لكلمة "روح" والفعل منها "راح" اي تحرك من مكانه.. والحركة لا تكون إلا بتغيير المكان عبر الزمان.
مع كل هذا التطور في حضارتنا لم تحسم علوم الفيزياء الجدل.. فالزمان لا يجري إلا بحركة المادة، اي بتغيرات مكانها.. والمكان لا يتحدد إلا بزمان محدد. من ذلك ظهر مفهوم الزمكان الذي يزاوج الإبن (المكان) مع الروح القدس (الزمان) ويجعلهما من خلق الإله الأب الذي هو المادة. هل يعقل أن يكون هذا هو ما حدث في تاريخنا.. أن تحولت العلوم القديمة إلى دين؟
كل علومنا الحديثة مازالت تراوح عند هذه النقطة، سواء في فيزياء الكم كما ذكرنا أو علوم نشأة الكون التي تتوقف عند نقطة الانفجار الكبير عاجزة عن تفسير لحظته الأولى، أو علوم نشأة الحياة العاجزة عن تفسير ظهور أول حمض نووي على سطح الأرض.
إنها النقطة الحرجة التي تواجه كل علومنا بدون استثناء أي منها، والتي بدونها لا يمكن فهم البدايات. وإن كان لا بد من وصف لهذه الحالة فقد سارع الأقدمون بالقول أن كل شيء قد "خلق" بمشيئة (مشتقة من شاء وشيء) لا نستطيع فهمها، لها من الصفات ما ليس فينا، هي مشيئة أبدية أزلية قادرة مهيمنة عليمة إلى آخره من الصفات التي لا تقوم تلك المشيئة بدونها. وهذا ليس ادراكاً لهذا الكون المادي الذي نعيش فيه، بل لما وراء هذا الكون.
فالمشيئة إذن هي أساس الكون ولا كون بدونها، هي مشيئة واحدة والكون متعدد.
إنَّ عجزنا عن فهم تلك المشيئة، وإستحالة وصولنا إلى ذلك الفهم، هو في نفس الوقت إيمان من قبلنا بوجودها وبكل ما فيها من صفات وقدرات. إلا أن مزيفوا العلم، وهم نفسهم مزيفوا التاريخ والدين، ربما لا يعلمون أن حقيقة العلم تعود دوماً للظهور مهما دأبوا على حجبها وتزييفها وتحويرها.
إن هكذا تثليث، سواء عند الآريوسية أو عند غيرهم، ما جاء إلا كناية عن علاقة الكل الأحد بالجزء المثنى وترميزاً لها، أو بالكل المثنى والروح القدس، وهي علاقة لا شك موجودة وليست بحاجة لتبرير بالكناية أو الترميز لمن كان ذو علم بها. والعلم بها لا يتأتى إلا باللغة السليمة والفطرة الصحيحة. فلا بد إذن من كناية ما دامت الفطرة عقيمة أو ما دامت اللغة سقيمة، لأن ذلك يؤدي الغرض المطلوب ويحقق الهدف المنشود فيما يخص تنظيم سلوك الناس في المجتمعات.
وهذا ما خلص إليه حي بن يقظان لما وصل إلى غايته بالعلم وخرج برفقة أبسال إلى سلامان وأهله معلماً للناس. لقد أحب الناس حي بن يقظان وأحسنوا إستقباله وضيافته، ولكن ما أن استغرق في تعليمهم صحيح العلوم حتى بدأ الفساد يدب فيهم وباتوا ينفرون منه. يقول إبن طفيل أن حي بن يقظان بعد يأسه من تعليم الناس: "أوصاهم بملازمة ما هم عليه من إلتزام حدود الشرع... وعلم هو وصاحبه أبسال ان هذه الطائفة المريدة القاصرة لا نجاة لها إلا بهذا الطريق وأنها إن رُفعت عنه إلى بقاع الإستبصار اختل ما هي عليه... وساءت عاقبتها. وإن هي دامت على ما هي عليه حتى يوافيها اليقين فازت بالأمن وكانت من أصحاب اليمين...".
ينصح حي بن يقظان الناس بالبقاء على دينهم وشريعتهم كما عرفوها مع الخلل الحاصل في معرفتهم تلك إلى أن يوافيهم اليقين أي حتى يأتيهم العلم الصحيح من تلقاء ذاته، والقصد أن أن الناس سيتعلمون من تلقائهم عندما تظهر لهم حاجة لذلك العلم.
بذلك يكون إبن طفيل قد قدم الدين على العلم لما فيه من مصلحة للعباد ولعدم إمكان تعميم العلم على العباد، تاركاً اليقين العلمي لزمن يأتي فيه. ويكون قد أقر بوجوب الأخذ بالكناية حتى يأتي ذلك الزمان مادامت الكناية يستعاض بها عن العلم لتحقيق غايات الشريعة.
هذه ليست إلا دراسة في علوم اللغة، وهي قاصر عن الإجابة على أسئلة عجزت عنها كل العلوم، فلا أحد يمكن أن يجيب عما سيكون بعد انكماش الكون، كلاهما العلم والدين يبشران بالإنكماش والزوال عن الصورة الراهنة.. العلم يصمت لأنه لا يملك الجواب، وثمة دين يبشرنا بجنة ونار... ودين جديد منبثق عن العلم يتنبأ بنبضية الكون، أي انفجار فانكماش ثم انفجار... لنجد أنفسنا حيث بدأنا، ثنائية العلم والدين وثنائية الجنة والنار وثنائية انكماش وانفجار... ثنائيات انجبتنا وثنائيات بانتظارنا... وما حمل الأمانة بهيِّن.